للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خلق الله فيها في أربعة أيام، ثم قال الله بعد ذكر هذا وذا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ}، فاعتقدوا أن {ثُمَّ} تفيد التأخر والتراخي، ومثله فهموه من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (البقرة: ٢٩).

وهكذا ينحصر الإشكال في دلالة كلمة (ثم) على التراخي والترتيب.

لكن أهل البلاغة يعرفون أن (ثم) لا تفيد بالضرورة الترتيب الوجودي الذي نعرفه في المتبادر إلى الذهن، بل لها دلالة أخرى، وهو ما تسميه العرب (الترتيب الذكري).

ولبيان هذا النوع من الدلالة لـ (ثم) نقرأ قول الشاعر:

قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده (١)

والمعنى: اذكروا خبر من ساد، ثم اذكروا خبر من ساد أبوه، ثم اذكروا خبر من ساد جده. وليس المعنى أن المرء يسود ثم يسود أبوه ثم يسود جده، بل العكس هو الصحيح، فالمرء يسود بعد سؤدد جده وأبيه.

ويشهد لصحة هذا الفهم قول الشاعر: (ثم ساد قبل ذلك)، فـ (ثم) للترتيب الذكري، لا الوجودي.

ومثله قول طرفة بن العبد وهو يصف راحلته:

جَنُوح دِفاق عَنْدَلٌ ثم أُفرِعَت ... لَهَا كَتِفَاها في مُعَالىً مُصَعَّد

فإنه ذكر جملة من محاسنها، ثم نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها، وهو طول قامتها (ثم أُفرعت)، ولا يقصد أن قامتها طالت بعد اتصافها بهذه


(١) انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (١/ ١٠٢)، ومغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، ص (١٥٩)، وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك (١/ ٢١١).

<<  <   >  >>