للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بعض الصحابة دون نظر إلى أعيانهم وأشخاصهم، لأنهم أكثروا الرواية، قلنا: قد كان غير هؤلاء أكثر منهم حَدِيثًا، ولم يَرِدْنَا خبر عن حبسهم، فلا يعقل أن يحبس أمير المؤمنين بعضًا دون بعض في قضية واحدة، هم فيها سواء، وهي الإكثار من الحديث، مَعَاذَ اللهِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فيحبس هؤلاء ويترك أبا هريرة مَثَلاً وهو أكثر حَدِيثًا منهم. فقد رُوِيَ عن أبي هريرة (٥٣٧٤) خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حَدِيثًا وعن ابن مسعود (٨٤٨) ثمانمائة وثمانية وأربعون حَدِيثًا، وعن أبي الدرداء (١٧٩) مائة وتسعة وسبعون حَدِيثًا، وعن أبي ذر (٢٨١) مائتان وواحد وثمانون حَدِيثًا (١).

فإن قيل إِنَّ أبا هريرة لم يكثر من الرواية في عهد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لأنه خَشِيَهُ. فنقول لِمَ لَمْ يَخْشَهُ هَؤُلاَءِ؟ بل إِنَّ عمر نفسه سمح لأبي هريرة أن يروي عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عندما عرف وَرَعَهُ وَخِشْيَتَهُ مِنَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، روى الذهبي عن أبي هريرة قال: «بَلَغَ عُمَرَ حَدِيثِي، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: كُنْتَ مَعَنَا يَوْمَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ فُلاَنٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ لأَيِّ شَيْءٍ سَأَلْتَنِي. قَالَ: وَلِمَ سَأَلْتُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَئِذٍ: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ).

قَالَ: أَمَا لاَ، فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ (٢)». فهل يتصور إنسان أن يحبس عُمَرُ ابنَ مسعود وأبا الدرداء وأبا ذَرٍّ أو أبا مسعود الأنصاري وقد عرف حفظهم وورعهم؟ بل إِنَّ أمير المؤمنين امْتَنَّ على أهل العراق كما أسلفنا عندما أرسل


(١) ذكر ذلك الإمام الحافظ بقي بن مخلد في " مسنده "، انظر " البارع الفصيح في شرح الجامع الصحيح " لأبي البقاء الأحمدي الشافعي. مخطوطة دار الكتاب المصرية: ص ٩ - ١٣: ب.
(٢) " سير أعلام النبلاء ": ص ٤٣٤ جـ ٢.