للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

محمدا بين أصحابه، وقد فتح مكة، ودخلها تحت رايات المجاهدين بأيديهم السيوف مصلتة لإقامة الحقّ، والعوالي السمر مشرعة لتقويض دعائم الباطل. أما إذا رأيته وهو محصور مع ذويه في شعب أبي طالب، وقد منع دخول الطعام والشّراب إليه من الخارج، فكأنك ترى يوسف الصديق وهو في سجن مصر يعاني شدائد الظالمين، ويكابدها.

إنّ موسى قد جاء بالأحكام، وداود امتاز بدعاء الله، والتغني بمناجاته، وعيسى بعث ليعلم الناس مكارم الأخلاق، والزهد في الدنيا، وأما محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقد جاء بكل ذلك بالأحكام، ودعاء الله، والتوجيه إلى مكارم الأخلاق، والحضّ على الزهد في الدنيا وزينتها، وكلّ هذا تجده في القرآن الحكيم لفظا ومعنى، وفي السيرة المحمدية قدوة وعملا.

سادتي! وأحبّ أن ألفت أنظاركم إلى ناحية أخرى من نواحي السيرة المحمدية تدلّ على جامعيتها:

إنّ في الدّنيا نوعين من المدارس: نوع يختص بفرع واحد من فروع المعرفة، كالطبّ، أو الهندسة، أو التجارة، أو الصناعة، أو الفنون الحربية، أو الزراعة، أو الحقوق، أو اللغة والآداب. ونوع يجمع هذه المعاهد العلمية كلها، فمن قصده استطاع أن ينتسب إلى أيّ فرع شاء من فروع المعارف الإنسانية. وهذا النوع الثاني هو الذي تهرع إليه طوائف الطلبة من جميع البلاد، فيجد فيه كلّ منهم ما تميل نفسه إلى التخصص فيه من العلوم، وبهذا سمّيت مجموعة هذه المعاهد باسم (الجامعة) ، ومنها يتخرّج قضاة المحاكم، والأطباء، والمهندسون، وقادة الجند، والناهضون بعلوم الزراعة، أو الصناعة، أو التجارة، والمتخصصون بالآداب وعلومها، والثقافة العليا وفنونها.

ومن البيّن الواضح للمتأملين أنّ المجتمع الإنساني لا يتمّ كماله، ولا تسعد حياته بضرب واحد من العلوم، ولا بصنف خاصّ من أهل الحرف والصناعات، بل يحتاج إلى مجموع ذلك كلّه. وإذا استقصينا ما يعرفه التاريخ من سير الأنبياء، ولا حظنا ما خلفوه من ثمرات أشجارهم،

<<  <   >  >>