للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويحيى بن عمر بن تلاكاكين من رؤساء لمتونة. ويقول لنا ابن خلدون إن عبد الله ابن ياسين وأصحابه انقطعوا للعبادة في جزيرة يحيط بها بحر النيل من سائر جهاتها، وهو قول لا يمكن أن ينصرف إلى نهر النيل المعروف لنا، لبعد النيل عن صحراء المغرب الجنوبية بمسافات شاسعة، ولكن تفسير هذا الغموض يرجع إلى أن " نهر النيجر " كان يظن يومئذ أنه امتداد أو فرع لنهر النيل العظيم، يخترق الأقطار السودانية الغربية. ومن ثم فقد كان نهر النيجر يعرف يومئذ بنهر النيل أو النهر الأعظم، وبهذا الاسم يسميه الرحالة ابن بطوطة في أقواله عن رحلته في مملكة مالي السوداء (١).

وإذاً فإن الموضع الذي انقطع فيه عبد الله بن ياسين وأصحابه للعبادة كان فيما يرجح جزيرة تقع في منحنى نهر " النيجر " على مقربة من تنبكتو، وهذا ما يؤيده وصف صاحب روض القرطاس (٢).

وعلى أي حال فقد انقطع عبد الله وصحبه للعبادة في هذا الموضع، وابتنوا به رابطة للصلاة والعبادة، وما لبث أن اشتهر أمره، ووفد عليه كثير من أشراف صنهاجة ممن آثروا الزهد والعبادة، فعكف عبد الله على تثقيفهم ووعظهم، وسماهم " بالمرابطين " للزومهم رابطته، وأخذ يعلمهم أحكام الكتاب والسنة والصلاة والزكاة، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويشوقهم إلى الجنة، ويحذرهم عذاب النار، ويلهب حماستهم للجهاد في سبيل الله، ومقاتلة المخالفين لأحكام كتابه. وكان عبد الله بن ياسين، حسبما أسلفنا واعظاً موهوباً، وخطيباً ذلقاً مؤثراً، وكان هذا الفقيه الورع، يضطرم في أعماق نفسه بمشاريع وأطماع دفينة أخرى، غير تلقين أحكام الدين، وبث الورع والخشوع في نفوس أصحابه.

ْذلك أنه ما كاد يرى كثرة تلاميذه - فقد بلغوا الألف عندئذ - ويوقن بولائهم، وانقيادهم لأوامره، حتى دعاهم إلى الجهاد بصورة عملية، وبعثهم إلى أقوامهم، لينذروهم، ويطلبوا إليهم الكف عن البدع والضلالات، واتباع أحكام الدين الصحيح، ففعلوا ما أمروا به، ودعا كل قومه إلى الرشد والهدى، ومجانبة التقاليد المنافية للدين، فلم يصغ لهم أحد من أقوامهم، فخرج إليهم عبد الله ابن ياسين بنفسه، واستدعى أشياخ القبائل ووعظهم، وحذرهم عقاب الله،


(١) راجع رحلة ابن بطوطة (القاهرة ١٣٢٢ هـ) ج ٢ ص ٢٠١ و ٢٠٢ و ٢٠٣.
(٢) روض القرطاس ص ٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>