وإنه لما يثير الدهشة حقاً ما انتهى إليه أمير المسلمين من التحول من تقدير المعتمد بن عباد، وإكباره والثناء البالغ على شجاعته ونجدته ومروءته، في كتبه الرسمية بالفتح، إلى المبالغة في خصومته، والعمل على سحقه، ومعاملته بأقصى ما يعامل به عدو. ويقال في ذلك، إنه فضلا عن البواعث السياسية والعسكرية، فقد لعبت السعاية والوشاية في علائق الرجلين دوراً لا يحمد، وأثارت في قلب يوسف أمرّ ضروب السخط والبغض ضد المعتمد.
لم يكن سقوط إشبيلية، وسقوط المعتمد وآله أسرى في أيدي الظافرين خاتمة المحنة، بل كان بداية محنة أفظع وأبلغ إيلاماً للنفس، هي محنة الاعتقال والأغلال والذل والمنفى المروع. وكان أمير المسلمين قد قرر مصير بني عباد، كما قرر مصير عبد الله وأخيه تميم صاحبي غرناطة ومالقة، وقد قتل المرابطون من أبناء المعتمد أربعة، هم الفتح المأمون، ويزيد الراضي، والمعتد بالله، ومالك، ولكنهم أبقوا على حياة المعتمد، وذلك فيما يبدو بإشارة أمير المسلمين ذاته، وربما كانت لدى الظافر في الإبقاء على حياته بواعث غير الرأفة به، فما كان المعتمد بن عباد من أولئك الذين يتهيبون الموت أو يخشونه، بل لقد كان يطلبه ويسعى إليه، حسبما رأينا. وربما أراد عاهل المرابطين بذلك، أن يتجرع المعتمد كأس الذلة إلى نهايتها، وأن يمرغ في التراب، ذلك الذي كان يعتبره قطب الفتنة في الأندلس، وحليف النصارى الخانع، المذنب في حق دينه ووطنه. وأن يذيقه من العذاب المعنوي أروع ألوانه.
وهكذا انتزع المعتمد بن عباد وآله من قصر إشبيلية المنيف، وأخذوا جميعاً إلى السفن التي أعدت لنقلهم إلى المنفى، وسارت السفن من إشبيلية في نهر الوادي الكبير في طريقها إلى العُدوة، في مناظر تذيب القلب حزناً وأسى، وضجت جموع الشعب الغفيرة التي احتشدت على ضفتي النهر لوداع المعتمد بالبكاء والنواح حينما شهدت سيدها وراعيها بالأمس تحيق به وجميع آله، أغلال الاعتقال والذلة، ويغادر موطن سلطانه وعزه إلى مصيره المجهول. وفي ذلك يقول شاعر المعتمد أبو بكر بن اللبانة، وقد كان من شهود ذلك اليوم من قصيدة طويلة:
نسيت إلاّ غداة النهر كونهم ... في المنشآت كأموات بألحاد
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا ... من لؤلؤ طافيات فوق أزباد