وتزكية تصرفاتهم، وابتزازهم لأموال الرعية، وقد كانوا يأكلون على كل مائدة، ويتقلبون في خدمات كل قصر، ليحرزوا النفوذ والمال، ويضعون خدماتهم الدينية والفقهية لتأييد الظلم والجور، وخديعة الناس باسم الشرع، وقد انفسح لهم بالأخص في ظل دول الطوائف مجال العمل والاستغلال والدس، واحتضنهم الأمراء الطغاة، وأغدقوا عليهم العطاء. ولم يفت مؤرخ العصر أبو مروان ابن حيان، أن ينوه بهذا التآلف والتضامن بين الأمراء والفقهاء. في تأييد الظلم والفساد. والخروج على أحكام الدين، وإليك ما يقوله لنا في ذلك:
" ولم تزل آفة الناس مذ خلقوا في صنفين كالملح: فيهم الأمراء والفقهاء قل ما تتنافر أشكالهم، بصلاحهم يصلحون، وبفسادهم يفسدون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا بما لا كفاية له، ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون، قد نكبوا بهم عن نهج الطريق ذياداً عن الجماعة، وجرياً إلى الفرقة، والفقهاء أئمتهم صموت عنهم، صدف عما أكده الله عليهم من التبيين لهم، قد أصبحوا بين آكل من حلوائهم. وخابط في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم، آخذاً بالتقية في صدقهم "(١).
وقد قاسى الشعب الأندلسي في ظل طغيان الطوائف، كثيراً من ضروب الاضطهاد والظلم، ولم يكن ذلك قاصراً على متاعب الفوضى الاجتماعية الشاملة، التي كان يعيش في غمارها، وانقلاب الأوضاع في سائر مناحي الحياة، وتوالي الفتن والحروب الداخلية، ولكنه كان يقاسي في نفس الوقت من جشع أولئك الأمراء الطغاة، الذين كانوا يجعلون من ممالكهم ضياعاً خاصة، يستغلونها بأقسى الوسائل وأشنعها، ويجعلون من شعوبهم عبيداً يستصفون ثرواتهم، وثمار كدهم، إرضاء لشهواتهم في إنشاء القصور الباذخة، واقتناء الجواري والعبيد، والانهماك في حياة الترف الناعم، والإغداق على الصحب والمنافقين، هذا فضلا عن حشد الجند، لإقامة نيرهم، وتدعيم طغيانهم. وقد ترتب على ذلك أن انهارت المعايير الأخلاقية، واختلط الحق بالباطل، والحلال بالحرام، ولم يعد الناس يعتدون بالوسيلة، بل يذهبون إلى اقتضاء الغاية، وتحقيق الكسب بأي الوسائل. وقد شرح لنا الفيلسوف ابن حزم طرفاً من هذه الفوضى الاجتماعية
(١) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط لوحة ٣٤ ب. ونقله البيان المغرب ج ٣ ص ٢٥٤.