ونحن لا نستطيع أن نتهم ابن حزم، وهو فيلسوف عصره المتزن، البعيد النظر، النافذ الملاحظة، بالمبالغة والتحامل، وهو قد شهد بنفسه أحداث العصر، وفضائح ملوك الطوائف، وأصدر عليها تلك الأحكام القاسية، التي نراها ماثلة في غير موضع من تعليقاته على حوادث عصره (١). وقد توفي ابن حزم في سنة ٤٥٦ هـ (١٠٦٤ م). وممالك الطوائف في إبان قوتها وعنفوانها، وقبل أن تنحدر إلى ما انحدرت إليه فيما بعد من الإنحلال المعنوي الشامل، وقبل أن يتهالك أمراؤها في الترامي على أعتاب ملك قشتالة، وينحدرون على يديه إلى أسفل درك من الذلة والمهانة. ولو شهد الفيلسوف هذه المرحلة الأخيرة من انحلال ممالك الطوائف، لكان بلا ريب في تعليقاته وأحكامه أشد قسوة وعنفاً.
- ٢ -
الخواص العلمية والأدبية
على أنه لمما يلفت النظر حقاً، أن ممالك الطوائف، كانت خلال هذا الانحلال الشامل، تبدو في أثواب لامعة زاهية. وإذا لم يكن يسودها النظام والاستقرار دائماً، فقد كانت في الفترات القليلة التي تجانب فيها الحرب الأهلية، تتمتع بقسط لا بأس به من الرخاء، وتغمرها الحركة والنشاط. وكان ملوك الطوائف. بالرغم من طغيانهم المطبق, ومن الصفات المثيرة التي كان يتصف بها الكثير منهم، من حماة العلوم والآداب. وإنها لظاهرة من أبرز ظواهر عصر الطوائف، أن يكون معظم الملوك والرؤساء من أكابر الأدباء والشعراء والعلماء، وأن تكون قصورهم منتديات زاهرة. ومجامع حقة للعلوم والآداب والفنون، وأن يحفل هذا العصر بجمهرة كبيرة من العلماء والكتاب والشعراء الممتازين, ومنهم بعض قادة الفكر الأندلسي، والفكر الإسلامي بصفة عامة.
ولنبدأ الحديث في ذلك عن قصور عصر الطوائف وأمرائه. فلقد كانت هذه القصور المنتثرة في رقعة الوطن الأندلسي الكبرى، وكل منها يدعي السيادة على مدن ورقاع محدودة، تسطع ليس فقط بفخامتها وروعتها وبذخها، ولكن كذلك بأمرائها ووزرائها وكتابها. الأدباء والشعراء. وقد ازدهر الشعر الأندلسي
(١) تراجع تعليقات ابن حزم على بعض فضائح عصره في " نقط العروس " ص ٨٣ و ٨٤ و ٨٩.