الأقصى. فلما هزم الجيش العربي في مفاوز طنجة للمرة الثالثة، وقتل كلثوم ابن عياض والي إفريقية ومعظم قواده، فر بَلْج بن بشر في بقية من جند الشام إلى سبتة، وامتنع بها حسبما أسلفنا، فطاردهم البربر وشددوا الحصار عليهم حتى جهدوا وأشرفوا على الهلاك. واستغاث بلج وزملاؤه بعبد الملك بن قطن ورجوه أن يعاونهم على العبور إلى الأندلس. وكان عبد الملك مضريا شهد موقعة الحَرَّة (١) قبل ذلك بستين عاماً، وشهد ما ارتكبه جند يزيد في المدينة من رائع السفك والإثم، فكان يبغض الشاميين أشد البغض، وكان فوق ذلك يخشى مطامعهم ومنافستهم، فأبى إغاثتهم بادىء ذى بدء، وعاقب بالجلد والقتل زعيما من بني لخم، أمدهم ببعض المؤن، ولكنه من جهة أخرى خشي عاقبة تصرفه، وأن يتهمه الخليفة بالعمل على إهلاك جنده. ولم يمض قليل حتى اضطرته الحوادث نفسها إلى استدعاء بَلْج وأصحابه. ذلك أن ثورة البربر كان لها في الأندلس أكبر صدى، فتحرك البربر في معظم الأقاليم الشمالية. وعصفت بالأندلس ريح ثورة بربرية دينية سياسية، كتلك التي عصفت بإفريقية، وإن كانت دونها شدة، واضطرمت الثورة بالأخص في جليقية وماردة وقورية وطَلْبيرة، وحشد الثوار جموعهم واختاروا لهم إماما، واعتزموا الزحف على طليطلة وقرطبة ثم الجزيرة، ليمهدوا لبربر العدوة سبيل القدوم إلى اسبانيا، ومعاونتهم على سحق العرب. واستطاع البربر، وهم في عنفوان ثورتهم، أن يهزموا كل الحملات، التي وجهها ابن قطن لإخضاعهم. وهنا ارتاع ابن قطن، وفكر في الحال أن يستعين بجند الشام المحصورين في سبتة، وهم زهاء عشرة آلاف، فكتب إلى بلج يدعوه إلى معاونته، واشترط عليه للعبور إلى الأندلس، أن يغادرها متى صلحت حال جنده، وانتهت الثورة. فقبل بَلْج وقدم الرهائن من أصحابه لتنفيذ هذا الميثاق. وعبر بَلْج وأصحابه إلى الأندلس (سنة ١٢٣ هـ)، وقدمت إليهم المؤن والثياب. وانضموا إلى قوات ابن قطن بقيادة ولديه أمية وقطن. والتقت القوات المتحدة بالبربر أولا في شذُونة (مدينة سدونيا) فهزم البربر، وأصاب الشاميون منهم غنائم كثيرة. ثم وقع القتال في ظاهر قرطبة مع جموع البربر الزاحفة عليها، فهزموا أيضا بعد مقاومة
(١) هي ضاحية المدينة الشرقية وتعرف بحرة واقم، وكانت موقعة الحرة سنة ٦٣ هـ؛ وفيها هاجم جند يزيد بن معاوية المدينة بقيادة مسلم بن عقبة المري، واستباحوها وقتلوا من أهلها جموعا كبيرة، ونهبوا الأموال، وسبوا الذرية، وهتكوا الأعراض؛ وكانت من أشنع الوقائع.