للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليهم مسئوليات عظيمة، لوقوعها بين أعداء أقوياء يتربصون بها باستمرار، وأن سرقسطة لم تكن بظروفها وروح شعبها كثيرة الولاء لحكمهم، ومن ثم فإن المرابطين لم يعنوا فيما يبدو، بأن يتجشموا في سبيل إنقاذها تضحيات عسكرية عظيمة.

وهكذا تركت سرقسطة لمصيرها، واضطرت بعد أن عانت من أهوال الحصار، وعصف الجوع والحرمان والمرض، أشنع الخطوب والمحن، وبعد أن يئس أهلها من إجابة صريخهم، وتلقي الإنجاد من أي مكان، أن يخاطبوا ألفونسو (ابن رذمير) أن يمنح أهلها هدنة مؤقتة (لم تعين لنا الرواية مدتها)، فإذا لم يأتهم الإنجاد المنشود، سلمت إليه المدينة، وتعاهد الفريقان على ذلك، ثم مضى هذا الأجل دون أن يتلقى المحصورون أية معونة، فاضطرت المدينة إلى التسليم (١).

وتلخص الرواية العربية الوحيدة - وهي رواية ابن الكردبوس - شروط هذا التسليم فيما يلي:

أن تسلم سرقسطة إلى ملك أراجون (ابن رذمير)، ومن أحب المقام بها من أهلها فله ذلك، على أن يؤدي جزية خاصة، ومن أحب أن يرحل إلى حيث شاء من بلاد المسلمين، رحل وله الأمان التام، وعلى أن يسكن الروم (الأرجونيون والفرنج) المدينة، والمسلمون ربض الدباغين، وعلى أن كل أسير يفلت للروم من المدينة ويحصل عند الإسلام، فلا سبيل لمالكه إليه ولا اعتراض له عليه.

وقد كان ربض الدباغين من أحياء سرقسطة المتطرفة، ويقع على ضفة النهر اليمني، حسبما يبدو ذلك من أقوال ابن عذارى التي تقدم ذكرها. وكانت سياسة الملوك النصارى، فيما يتعلق بمن يبقى من السكان المسلمين في المدن المفتوحة، هو أن يسمح لهم بالبقاء في منازلهم داخل المدينة لمدة سنة أو نحوها، ثم يلزمون بعد ذلك بالانتقال إلى الأرباض، وهي الأحياء المتطرفة أو الضواحي، وقد منح سكان سرقسطة وفقاً للرواية النصرانية هذا الامتياز بالبقاء في أحيائهم داخل المدينة مدى عام، ينتقلون بعده إلى ربض الدباغين، وغيره من الأرباض الخارجية، وهذا هو ما اتبع فيما بعد في عهود تطيلة وطرطوشة وغيرهما من قواعد الثغر المفتوحة.

ويضيف ابن الكردبوس إلى ما تقدم، أنه ما كاد ملك النصارى يستقر بالمدينة، حتى غادرتها كثرة أهلها المسلمين، وأنه لما شهد جموعهم الزاخرة ركب بنفسه إليهم، وأمرهم أن يبرزوا جميع ما لديهم، فأبرز الفارون أموالا لا تحصى، ولكنه


(١) روض القرطاس ص ١٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>