طوائف المعاهدين، في ظل هذه الحكومات الإسلامية، من ضروب الرعاية والتسامح، والتمتع بمزاولة شعائرهم، وتقاليدهم، والاحتكام إلى قوانينهم وقضاتهم، والتحدث بلغتهم الخاصة، دون حيف أو ضغط متعمد يلحق بهم، ودون مطاردات دينية من أي نوع تعصف بأمنهم وسلامهم، وأنهم كانوا يؤلفون في مختلف القواعد الإسلامية، في مجتمعات متقدمة مزدهرة، ويشغلون في أحيان كثيرة في القصر وفي الحكومة، مناصب النفوذ والثقة، وإن كانت التواريخ النصرانية تؤثر مع ذلك كله أن تقدم إلينا مجتمع المعاهدين في صور قاتمة، وتزعم بأنهم كانوا ضحية الجور والإرهاق، يعانون من ضغط الحكومة الإسلامية المادي والأدبي، في صور وأوضاع شتى.
وقد أشرنا في نفس الوقت إلى ما كان يتسم به أولئك النصارى المعاهدون من نكران الصنيعة، وعدم الولاء للحكومات الإسلامية، بالرغم مما كانت تحيطهم به من ضروب الرعاية والتسامح، وكيف أنهم لم يدخروا دائماً وسعاً في الكيد لها، والتآمر على سلامتها، ومداخلة أعدائها النصارى الإسبان، وتحريضهم عليها، ومعاونتهم على الإيقاع بها في كل فرصة سانحة، وضربنا لذلك عديد الأمثلة التاريخية، التي تسجل على النصارى المعاهدين أعمال الخيانة والغدر، والتآمر مع أعداء الأندلس المسلمة على القضاء عليها (١).
ولما سقطت سرقسطة في أيدي النصارى، وتوالت انتصارات ألفونسو المحارب، وتوالت محن المسلمين في الثغر الأعلى، وظهر التخاذل على الجيوش المرابطية، أخذت طوائف المعاهدين في التحفز، ولاح لها أنها تستطيع أن تعمل عملا مثمراً لضرب الأندلس، بالتفاهم مع عاهل الثغر الأعلى، وإمداده بما وسعوا من ضروب الإمداد والعون.
وكان أشد طوائف المعاهدين نشاطاً في تدبير هذه المؤامرة الكبرى، نصارى ولاية غرناطة، وكانوا من أكبر طوائف المعاهدين عدداً، وأغناهم مالا، وأكثرهم ازدهاراً ومقدرة ونفوذاً، وكانت لهم خارج غرناطة، تجاه باب إلبيرة، في طريق قرية قولجر، كنيسة عظيمة شامخة، فريدة في العمارة والطراز، فما استولى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين على غرناطة، خاطبه الفقهاء في
(١) يراجع الفصل الخاص بذلك من كتاب " دول الطوائف " ص ٣٩٥ - ٤٠١.