للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ظهوره في ذلك المجتمع البربري الساذج، الذي اختاره مسرحاً لدعوته، والذي كان يخيم عليه الجهل المطبق، وتعصف به الخرافات والأساطير، يتسم بصفات الزعامة الخارقة أو النبوة، ومن ثم فقد ألفى ابن تومرت الطريق ممهداً ليعلن دعوته، وليتشح بثوب المهدي المنتظر، وينتحل صفة الإمام المعصوم، وقد كان ابن تومرت من بين دعاة المهدية، أوفرهم عزماً وبراعة، وأشدهم تأثيراً وسحراً.

وكان يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى، ويخبرهم بأنه تعالى قد فرض عليهم الصلوات الخمس في يومهم وليلتهم، وفرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم، ويأمرهم بقراءة القرآن وحفظه، ولزوم الأحزاب التي ألفها لهم بعد صلاة الصبح، وبعد المغرب، وأمر المؤذنين، إذا طلع الفجر، أن ينادوا " أصبح ولله الحمد " إشعاراً بلزوم الطاعة وحضور الجماعة، وللغدو لكل ما يؤمرون به، وفرض عقوبة المخالفين.

ولكن ابن تومرت إلى جانب هذه الصفات الخلابة، كان يتسم بطائفة من الصفات المثيرة، فقد كان شديد التعصب، صارم النفس، سفاكاً للدماء، غير متورع فيها ولا متحوط، يهون عليه سفك دم عالم من الناس في سبيل رأيه وبلوغ مقصده، لا تأخذه شفقة ولا رحمة في دماء خصومه، ويستحل سبي نسائهم وأولادهم ونهب أموالهم (١)، ويسبغ على هذا السفك المروع، صفة الشرعية، لما يزعمه من مخالفة خصومه لأحكام الكتاب والسنة، أو لمبدأ التوحيد الذي اتخذه شعاره. وقد رأينا فيما تقدم من مراحل صراعه مع خصومه أمثلة عديدة من هذا الإسراف المغرق في سفك الدماء، وربما كان فيما ذكر عن المهدي من أنه " كان حصوراً لا يأتي النساء " (٢) ما يفسر بعض عوامل هذه القسوة المروعة، وهذا الظمأ إلى سفك الدماء.

ويلاحظ العلامة جولدسيهر بهذه المناسبة أن ابن تومرت كان يبث في أذهان أنصاره بتدرج غير محسوس، فكرة محاربة المرابطين، وأنه حينما كان في بداية أمره، يقتصر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتبع ما يقضي به الدين من العمل على حقن الدماء، ولكنه منذ اتشح بصفة المهدي، أخذ يشهر الحرب،


(١) روض القرطاس ص ١١٧.
(٢) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة ١٤ ب و ٣٣ أ)، ونقله ابن خلدون ج ٦ ص ٢٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>