والتعصب لتلك الكلمة حتى علت على الكلم، ودالت بالعدوتين من الدول، وهو بحالة من التقشف والحصر، والصبر على المكاره، والتقلل من الدنيا، حتى قبضه الله، وليس على شىء من الحظ والمتاع في دنياه .. فليت شعري، ما الذي قصد بذلك إن لم يكن وجه الله، وهو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله. ومع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تم أمره، وانفسحت دعوته، سنة الله التي قد خلت في عباده " (١).
وابن خلدون يقدم إلينا هذا الدفاع عن المهدي في معرض كلامه عن أخطاء المؤرخين وأوهامهم ودعاويهم المغرضة. وهو يقدم إلينا منها نماذج، يصاحبه التوفيق في بعضها ويخطئه في البعض الآخر. ونحن نرى أن التوفيق قد أخطأه في هذا الدفاع عن المهدي ابن تومرت، وعن صدق دعوته. وقد استعرضنا فيما تقدم من حديثنا عن حياة المهدي، ما يحملنا على الشك أولا، في صدق انتسابه إلى آل البيت، وثانياً في انتحاله دعوة المهدية، وهي دعوة نشك أيضاً في صدقها من الناحية الدينية والتاريخية. ونحن نعتقد أن مفكراً عظيماً، ومؤرخاً فيلسوفاً، وضعي
العقلية، كابن خلدون، لا يمكن أن يؤمن بصدق هذه الدعوة، وإنما حمل ابن خلدون على الدفاع عن المهدي ودعوته، بواعث خاصة، أولها أن بني خلدون - أسرة المؤرخ - كانت مذ غادرت الأندلس في أوائل القرن السابع الهجري - قد نزلت بتونس، وعاشت في رعاية بني حفص ملوك الدولة الحفصية الموحدية التي أسسها الأمير أبو يحيى زكريا بن عبد الواحد بن أبى حفص عمر الموحدي، وتولى أجداد المؤرخ في ظلهم مناصب النفوذ والثقة، وبدأ هو حياته العامة في ظلهم، وعاش في كنفهم ردحاً من الزمن، وأهدى أول نسخة من مقدمته وتاريخه للسلطان أبى العباس الحفصي (سنة ٧٨٤ هـ)، فلم يكن من المعقول أن يجاهر المؤرخ في مقدمته، بالطعن في إمامة المهدي ودعوته، وهي التي كانت أساساً لقيام الدولة الموحدية. وثانياً أنه ليس من المنطق السليم، أن يكون نجاح دعوة المهدي ابن تومرت، وما ترتب عليه من قيام الدولة الموحدية، دليلا على صدق هذه الدعوة، لأن النجاح السياسي والعسكري لداعية أو متغلب لم يكن قط في ذاته دليلا على صدق إمامة أو دعوة دينية، وثالثاً أن إنكار صدق دعوة المهدي ابن تومرت لم يكن قاصراً على الفقهاء المرابطين، الذين يعلل ابن خلدون طعنهم في هذه الدعوة بما كان يجيش في صدورهم من حقد على رجل يتفوق عليهم