النورمان قد استولوا على جزيرة جِربة الواقعة في مدخل خليج قابس منذ سنة ٥٢٩ هـ (١١٣٥ م)، بعد أن قاومهم أهلها مقاومة عنيفة، ثم حاولوا الاستيلاء على ثغر طرابلس في سنة ٥٣٧ هـ (١١٤٢ م)، فهاجموه بأسطول قوي، ولكنهم فشلوا وردهم أهله المسلمون بخسارة فادحة، وكانت طرابلس وقتئذ تابعة لمملكة إفريقية (تونس)، ولكنها لم تكن تدين بالطاعة لملكها الأمير الحسن بن على بن يحيى الصنهاجي. ثم عاد رُجّار (روجر) ملك صقلية، فجهز إلى طرابلس أسطولا ضخماً، واستطاع الفرنج هذه المرة الاستيلاء عليها (٥٤١ هـ - ١١٤٦ م) وولوا عليها رجلا من بني مطروح. وفي العام التالي (٥٤٢ هـ) أعلن يوسف صاحب قابس المتغلب عليها طاعته للفرنج، فبعث الأمير الحسن جيشاً لقتاله، فنازل قابس وحاصرها، وثار أهل البلد بيوسف، فأسر وعذب وقتل، وفر إخوته وأولاده إلى صقلية، واستغاثوا بملكها رجار الثاني. وكانت الهدنة معقودة بين رجار وبين الحسن لمدة سنتين، ولكن رجار علم ما تعانيه إفريقية والمغرب في هذه الفترة، من شدة الغلاء والقحط، ولم يرد أن تفوته هذه الفرصة السانحة لمهاجمة إفريقية، وانتزاع ما يمكن انتزاعه منها. فسير إلى مياه إفريقية أسطولا ضخماً قوامه مائتي وخمسين سفينة مشحونة بالرجال والسلاح والأقوات، بقيادة أمير البحر جرجي الأنطاكي، وكان قبل التحاقه بخدمة ملك صقلية، أميراً لأسطول إفريقية الإسلامي، ومن ثم كان علمه بأسرار هذه الشواطىء، واستولى الأسطول في طريقه على جزيرة قوصرة (بنتلاريا) الواقعة بين صقلية، وبين الشاطىء التونسي، ثم سار نحو الجنوب الغربي، وقصد إلى ثغر المهدية، وهي قاعدة مملكة بني زيري الصنهاجيين. وكان ذلك في اليوم الثاني من صفر سنة ٥٤٣ هـ (يونيه ١١٤٨ م). وكان أمير البحر جرجي يرجو مفاجأة المدينة، بالوصول إليها في وقت السحر، ولكن الرياح عاكسته، ولم يصل إلا في الضحى، فرآه أهل المدينة، وازعج الأمير الحسن الصنهاجي من قدوم الفرنج، وبعث إليه جرجي يخاطبه باللين، ويقول إنه مازال يحترم الهدنة المعقودة بينه وبين الملك رجار، ولكنه يطالب بثأر صاحب قابس وردها إلى ولده، ويطلب أن تنضم إليه قوة من جند الحسن، فجمع الحسن فقهاء المدينة وأعيانها، وشاورهم في الأمر، وبين لهم حرج الموقف، وتخوفه من قيام الفرنج بحصار المدينة، وقطع الأقوات عنها، ثم اقتحامها عنوة، والفتك بأهلها، ونصح بمغادرة الناس