فسار الموحدون في هدوء، وانعطفوا إلى الصحراء، وراء أحياء العرب، حتى لا يفلتوا بالتوغل فيها، وكان العرب قد احتشدوا جنوبي القيروان عند جبل القرن، تحت إمرة بعض المشاهير من مقدميهم، مثل أبى محفوظ محرز بن زياد، ومسعود بن زمام، وجبارة بن كامل بن سرحان وغيرهم، فلما دهمهم الموحدون اضطربوا واختل نظامهم، وفر مسعود وجبارة ومن معهما من العشائر، وثبت محرز بن زياد ومن معه، واشتبكوا مع الموحدين في معركة عنيفة، وذلك في منتصف شهر ربيع الآخر من سنة ٥٥٥ هـ، فقتل محرز، وانهزمت جموع العرب، وسقط متاعهم وحريمهم وولدهم في أيدي الموحدين، فأمر عبد المؤمن بالتحفظ عليهم ورعايتهم، حتى أقبلت وفود رياح والأثبج، في طلب حريمهم، فردهن إليهم، وفرق فيهم الصلات، واستمالهم بحسن صنيعه، وانتهى بأن جهز منهم قوة لتشترك في الجهاد في الأندلس (١). وسوف نرى فيما بعد أي دور هام يلعبه أولئك العرب، في حوادث المغرب والأندلس، وكيف تعمد السياسة الموحدية إلى استمالتهم والاستعانة بهم، ولاسيما في عهد الخليفة أبى يعقوب يوسف ولد عبد المؤمن وخليفته.
وفي شهر ذي القعدة سنة ٥٥٥ هـ (نوفمبر سنة ١١٦٠ م) عبر الخليفة عبد المؤمن البحر إلى الأندلس، وكان عبوره إليها حادثاً هاماً من أشهر حوادث العصر، وكانت له نتائج بعيدة المدى.
بيد أنه يجب قبل أن نتحدث عن عبور الخليفة الموحدي إلى شبه الجزيرة، أن نستعرض ما تقدمه من الحوادث المتعلقة بموقف الموحدين من شئون الأندلس.