عبد المؤمن، ودوت أصداء النكبة في جنبات الأندلس، أخذ ابن غانية يواجه عواصف الثورة هنا وهنالك. ولما تفاقمت حوادث الغرب، وزحف المريدون أتباع ابن قسي على إشبيلية، سار ابن غانية في قواته لردهم، مستخلفاً على قرطبة أبا عمر اللمتوني، فهزمهم في طريانة، ثم طاردهم حتى لبلة، وأخذ في منازلتها، وهنا بلغته أنباء الثورة في قرطبة، فارتد أدراجه إلى إشبيلية، ولبث بها حيناً يدبر أمره، ويستعد لمواجهة الحوادث.
ذلك أنه لم تمض بضعة أشهر على قيام الثورة في الغرب، وسقوط قواعده في أيدي الثوار، حتى اضطرمت قرطبة بثورة مماثلة. وكان زعيم الثورة قاضي المدينة، ابن حَمْدين، وهو أبو جعفر حمدين بن محمد بن علي بن حمدين، وكان بيتهم من أقدم البيوتات العربية. دخل جدهم الأندلس مع الطالعة البلجية، واستقروا في باغة، وبها ازدهر بيتهم، وكان ابن حمدين قد وُلي قضاء قرطبة في شعبان سنة ٥٢٩ هـ، على أثر مقتل قاضيها أبى عبد الله بن الحاج، وهو يصلي بالمسجد الجامع في صفر من تلك السنة. ثم صُرف ابن حمدين عن القضاء في سنة ٥٣٢ هـ، وولى مكانه أبو القاسم بن رشد فوليه نحو عامين، ثم أعفاه الأمير علي بن يوسف من منصبه دون أن يعين خلفاً له، ووقع بعد ذلك بقرطبة هياج اعتدى فيه العامة على المرابطين، فخرج إليهم ابن حمدين، وتمكن من تسكين ثورتهم، فظهر يومئذ بوافر حكمته وشهامته، وبقيت قرطبة دون قاض مدى عام. ثم أذن علي بن يوسف لأهلها أن يختاروا لهم قاضياً، فأجمعوا على اختيار ابن حمدين، فولى القضاء للمرة الثانية في سنة ٥٣٦ هـ، واستمر في منصبه حتى أواخر سنة ٥٣٩ هـ.
وكانت حوادث المغرب من جهة، وحوادث الثورة في الغرب، قد أخذت تحدث أثرها، وأخذت بذور الثورة تختمر من جديد في أذهان الشعب القرطبي، وقد عرفناه فيما تقدم من مراحل التاريخ الأندلسي شعباً سريع التقلب، سريع الهياج.
فما كاد الحاكم المرابطي، الأمير يحيى بن غانية، يبتعد في قواته صوب إشبيلية لحمايتها من عيث المريدين، حتى اضطرمت قرطبة بالثورة، وثارت العامة بالوالي المرابطي الرئيس أبى عمر اللمتوني، وأعلنوا خلعه، وخلع دعوة المرابطين، ونادوا برياسة القاضي أبى جعفر بن حَمْدين، وبويع ابن حمدين بالإمارة في المسجد الجامع، وبايعه الخاصة والعامة، وذلك في الخامس من شهر رمضان سنة ٥٣٩ هـ. واستقر