للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان عبد الرحمن غداة ظفره الأول، يواجه هذه الخطوب والأخطار كلها، وكان عليه أن يقارعها جميعاً، لكي يغنم رياسة الأندلس القوية المتحدة. ولكن ذلك الأمير الفتى الذي لم يكن يجاوز السادسة والعشرين يوم ظفره، كان رجل الموقف، قد شحذت من عزمه الخطوب والمحن، وأعدته لحياة النضال والمغامرة. فقضى بقية عمره - اثنين وثلاثين عاما - في كفاح مستمر، لا ينتهي من معركة إلا ليخوض أخرى، ولا يقمع ثورة إلا تليها ثورة، ولا يسحق خارجاً إلا ليعقبه خارج، ولم تبق بالأندلس ناحية أو مدينة إلا ثارت عليه، ولا قبيلة إلا نازعته في الرياسة، ولم تبق قوة خفية أو ظاهرة إلا عملت لسحقه. فكانت الأندلس طوال عهده بركاناً يتأجج بضرام الحرب والثورة والمؤامرة. ولكنه صمد لتلك الخطوب كلها، واستطاع بكثير من الذكاء والإقدام والعزم والجلد، أن يغالب تلك الأخطار والقوى، وأن يقبض على مصاير الأندلس بيده القوية، وأن يحيى سلطان أسرته المندثر، في ذلك القطر النائي، ليستقر ويزدهر أكثر من قرنين. وكان تفرق خصومه أهم عامل في ظفره، فلم تك ثمة زعامة شاملة بعد يوسف والصميل، يجتمع الخصوم حولها، وكانت القوى الخصيمة منتثرة في النواحي والمدن، تعمل كل بمفردها حول زعيمها المحلي، وكانت فوق ذلك يعارض بعضها بعضاً في معظم الأحيان، وقد استطاع عبد الرحمن أن يقدر هذا الظرف وأن يستغله، فعمد إلى لقاء معارضيه في الميدان فرادى، واستطاع أن يخمد ثوراتهم، وأن يحطم قواهم بالتعاقب، وهو في كل مرة يزداد قوة ومنعة، ويزداد خصومه ضعفاً وتفرقاً، حتى قضى عليهم جميعاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>