للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأندلس الحقيقي مراحل بعيدة، وكان ملك الأندلس قد غدا منذ انحلال الخلافة الأموية، كما رأينا، نهباً مشاعاً يتنازعه الزعماء والمتغلبون، وكانت الفتن المتوالية قد عصفت بالسلطة العليا، واقتصت من أطرافها، واستقل الزعماء الأقوياء بكثير من النواحي، وقضى يوسف الفهري معظم ولايته في إخماد الفتنة، واستخلاص الرياسة، ولكنه لم يوفق إلى إخماد كل عناصر النزاع والخروج. فلما ظهر الفتى الأموي في الميدان، كان صرح الأندلس يهتز فوق دعائمه الواهنة، وكان توطيده يتطلب كثيراً من العزم والعمل القوي.

وكان يوم المسارّة حاسما في مصاير الأندلس، وكان فاتحة عهد جديد في تاريخها. ولكن المهمة كانت فادحة، والمعركة شاقة مشعبة النواحي. وكما أن يوم المسارة كان فاتحة الظفر، فقد كان فاتحة الكفاح أيضا. ذلك أن الأندلس كانت يومئذ بسيطاً من الفتن المتأججة، وكانت الثورة تجثم في كل ناحية، وانحلت عري العصبية القديمة الشاملة، وانتثرت فرقا وشيعا صغيرة، فلم تبق الخصومة قاصرة على المضرية واليمنية فقط، ولكن غدت كل قبيلة وكل بطن تلتف حول زعامتها ومصالحها الخاصة. وكانت هذه القوى المنتثرة المستقلة برأيها وهواها، تتمسك باستقلالها المحلي، وتأبى الخضوع لأية سلطة عامة. وكان عبد الرحمن يرمي إلى إحياء دولة الإسلام في الأندلس موحدة متماسكة، كما كانت قبل أن تمزقها الحرب الأهلية، فكانت المعركة في الواقع معركة الدولة والإمارات المستقلة، ومعركة السلطة المركزية والإقطاع المحلي: معركة الرياسة الشاملة، والعصبية المتناثرة. وكان البربر عنصراً قوياً في الفتنة، يحتفظون دائماً ببغضهم القديم للعرب، ويحرصون على ما انتزعوه منهم خلال الفتنة من النواحي والضياع. ثم كان هنالك ما هو أشد خطراً على دولة الإسلام في الأندلس، ونعني اسبانيا النصرانية التي استطاعت أن تخرج سراعاً من غمر الهزيمة والفوضى، وأن تنتظم إلى مملكة جديدة في الشمال، وكذلك مملكة الفرنج القوية التي استطاعت أثناء الفتنة أن تنتزع الأراضي الإسلامية فيما وراء البرنيه. وكان نصارى الشمال والفرنج يتربصون يومئذ بالأندلس، ويرون في تفرقها وضعفها فرصة صالحة للعمل، ويتصلون بكثير من الزعماء والخوارج، ويمدونهم بالنصح والعون، ويتخذونهم وسائل لتحقيق مشاريعهم في تمزيق الأندلس وانتزاع أطرافها.

<<  <  ج: ص:  >  >>