البحر من الناس، النظارة على سيف البحر عالم لا يحصيهم إلا خالقهم. وكان يوماً مذكوراً مشهوداً، ظهر فيه من فخامة الملك والأمر، ما لم يتقدم في سالف الأزمان، ولا تخيل مرآه في الأذهان ".
وكان عبور عبد المؤمن إلى شبه الجزيرة، ونزوله في جبل طارق، في شهر ذي القعدة سنة ٥٥٥ هـ (يناير سنة ١١٦١ م). وكان في استقباله في الجبل، ولداه السيد أبو يعقوب والى إشبيلية، وقد غادرها مع وفد كبير من أشياخ الموحدين، ورؤساء الأندلس وقادتها وعلى رأسهم أبو العلاء بن عزون، وأعيان إشبيلية وشيوخها وقاضيها أبو بكر الغافقي، وكبير علمائها الحافظ أبو بكر ابن الجَدّ، وسائر من بها من الكبراء والشعراء؛ والسيد أبو سعيد والي غرناطة، مع من بها من أشياخ الموحدين والحفاظ، وأكابر غرناطة وعلماؤها، وكذلك أعيان قرطبة وعلماؤها، وأعيان غرب الأندلس وعلماؤها؛ وأعيان مالقة ورندة، وشريش، وعلى الجملة سائر أعيان الأندلس الموحدية وكبراؤها، وعلماؤها وأدباؤها وشعراؤها. وندب عبد المؤمن ولده ووزيره السيد أبا حفص لكي يتولى أمر الوفود، ويقودها إلى مجلسه للسلام وتجديد البيعة، فأدخلوا بترتيب معين، وأدوا التحية للخليفة الموحدي، وأكدوا له البيعة والطاعة، وكان القضاة يتقدمون الوفود. وتعاقب الخطباء بين يدي الخليفة، فخطب أبو الحسين ابن الإشبيلي وصاحبه أبو محمد بن جبل، وأبو محمد المالقي وغيرهم، وكانت خطبهم تدور كلها حول وجوب البيعة، وما يوجبه الشرع من العهود والرسوم، والوفاء بالطاعة لولي الأمر، ثم أذن لهم " بتقبيل اليد المباركة " (١).
وجاء بعد ذلك دور الشعر، فأمر عبد المؤمن باستدعاء الشعراء، ولم يكن يستدعيهم قبل ذلك اليوم، إنما كانوا يستأذنون فيؤذن لهم. وكان يوماً عظيماً من أيام الشعر والشعراء. وكان بين هذه الوفود الحاشدة، عدة من أقطاب الشعر بالمغرب والأندلس، ذكر لنا ابن صاحب الصلاة، وصاحب المعجب أسماءهم، فكان منهم شاعر المغرب أبو عبد الله محمد بن حبوس من أهل فاس، والوزير الكاتب أبو عبد الله محمد بن غالب البلنسي المعروف بالرُّصافي، نزيل مالقة، وأحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي، والقرشي القرطبي المعروف بالطليق، وأبو الحسن عبيد الله محمد بن صاحب الصلاة الباجي، وأبو بكر
(١) كتاب المن بالإمامة على المستضعفين - المخطوط - لوحة ١٥ و ١٦.