للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيوجههم إلى ما يبغيه من سرعة الحفظ والتدريب، فيأخذهم يوماً بتعلم الركوب، ويوماً بالرمي بالقسى، ويوماً بالسباحة في بحيرة أنشأها لهم خارج بستانه، في مربع ضلعه نحو ثلاثمائة ذراع، ويوماً بالتدرب على إصابة الهدف، على قوار وخوازيق صنعها لهم بتلك البحيرة، وذلك لكي يجعل منهم رجالا مثقفين، مدربين مقتدرين. وكانت نفقتهم وسائر مؤنهم وخيلهم، وعُددهم، كلها من عنده. وفضلا عن ذلك، فقد قرر عبد المؤمن، بموافقة أشياخ الموحدين، أن يدفع لكل طالب من هؤلاء قرضاً يتجر به إسعافاً لهم، وصرف لكل منهم من مال المخزن قرضاً قدره ألف دينار، فتاجروا وأثروا، ولم يسترد منهم هذا القرض قط (١). ولما كمل تدريبهم، وأصبحوا طائفة يعتمد على علمها ودربتها وخبرتها، ندبهم لمختلف الأعمال والرياسة بدلا من أشياخ الموحدين، وقال لهم إن العلماء أولى منكم، واستبقى الأشياخ لمشورته (٢). وقد رأينا فيما تقدم كيف ندب كثير من أولئك الحفاظ لأعمال الإدارة والرياسة، في كثير من القواعد الأندلسية المفتوحة، وهم سوف يشغلون من الآن فصاعداً حيزاً كبيراً، في أعمال الولاية والرياسة، في أنحاء الدولة الموحدية.

وكان عبد المؤمن فوق ذلك، كاتباً بليغاً، وأديباً ضليعاً، إماماً في النحو واللغة، حافظاً للتاريخ وأيام الناس، وشاعراً ينظم الشعر الجيد، وقد أورد لنا صاحب روض القرطاس له مطارحة شعرية مع وزيره ابن عطية (٣)، وذكر صاحب الحلل الموشية، أن عبد المؤمن حينما هنأه أبو عبد الله الجياني يوم انتصاره على المرابطين بفحص مراكش بقصيدة أولها:

أضاءت لنا الأيام واتصل النجح ... وكانت وجوه الدهر مسودة كلح

أجابه عبد المؤمن بقوله:

هو الفتح لا يجلو غرائبه الشرح ... أصاب بني التجسيم من بأسه طرح

أتتنا به البشرى على حين غفلة ... بمهلك قوم كان وعدهم الصبح

وكان ممن وفد على عبد المؤمن من أدباء العصر وشعرائه، أبو العباس أحمد


(١) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة ٥٢ ب).
(٢) الحلل الموشية ص ١١٤.
(٣) روض القرطاس ص ١٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>