للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأن نستعرض في نفس الوقت، طرفاً من المبادىء والنظم التي سار عليها بنو تاشفين في حكم إمبراطوريتهم العظيمة بالمغرب والأندلس، ومن الظروف والأحوال الحضارية التي عاشت في ظلها.

قامت الدولة المرابطية، حسبما رأينا على أساس من العقيدة الدينية، وكان منشؤها الروحي فقيه متعصب، هو عبد الله بن ياسين الجزولي. واحتفظت بهذا الطابع الديني معظم حياتها، وكان يتخذ منذ البداية صورته العملية، في سيطرة الفقهاء على شئون الدولة وتوجيهها، وفي اتجاه الجيوش المرابطية، في المراحل الأولى من حياة الدولة إلى أعمال الجهاد، سواء في المغرب أو الأندلس. وكان نفوذ الفقهاء في تسيير الدولة المرابطية، يتخذ أيام يوسف بن تاشفين، صورة الشورى، فكان العاهل المغربي يستفتيهم في الخطير من الأمور، لا استفتاء المستسلم الخانع، ولكن استفتاء الحذر المستنير، الذي يحاول أن يطمئن على سلامة تصرفاته، وأن يلتمس لها السند الشرعي. ولكن هذا النفوذ لم يلبث أن غدا في عهد ولده علي، نوعاً من الدكتاتورية الدينية (ثيوقراطية). ولم يكن لعلي بن يوسف، بالرغم من ذكائه وجميل صفاته، وبالرغم من ورعه وتقواه، من العزم والحزم، ما يكفي لمغالبة هذا النفوذ الجارف. وهذا ما يصوره لنا المراكشي، عند حديثه عن علي بن يوسف، في تلك الفترة التي تبرز لنا روح الحكم المرابطي على حقيقتها:

" وكان (أي علي بن يوسف) حسن السيرة، جيد الطوية، نزيه النفس، بعيداً عن الظلم، كان إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين، أقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمتغلبين. واشتد إيثاره لأهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، فكان إذا ولى أحداً من قضاته، كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمراً، ولا يبت حكمه في صغير من الأمور ولا كبير، إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغاً عظيماً، لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس. ولم يزل الفقهاء على ذلك، وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها، موقوفة عليهم، طول مدته. فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا، وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم واتسعت مكاسبهم ".

وفي ذلك أيضاً يقول شاعر من شعراء العصر، هو أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بابن البني، من أهل مدينة جيّان:

<<  <  ج: ص:  >  >>