للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالأندلس، قد أوضحنا ما ينطوي عليه هذا الحكم من مختلف نواحيه الحسنة والسيئة. وإذا كانت حسنات الحكم المرابطي تتلخص قبل كل شىء في أعمال الجهاد التي اقترنت بحقبته الأولى، فإن مثالبه تتلخص في استئثار المرابطين بالسلطان، وفرضهم على الأندلس حكم طغيان مطلق، شديد الوطأة، لم تألفه الأمة الأندلسية، ويزيد من وطأته عدوان الجند والعبيد، ثم حجرهم على العقائد والفكر. بيد أنه يبقى من المبالغة والتحامل، أن يقال إنه بقيام الحكم المرابطي بالأندلس " قد حلت البربرية مكان التمدن، وحل التخريف مكان الذكاء، وحل التعصب مكان التسامح " (١). ذلك أن مثل هذا الحكم الدامغ، لا يسوغ إصداره عن عصر كالعصر المرابطي، تتراوح أحواله وظروفه بين مختلف الظواهر اللامعة والقاتمة. وإذا كان المرابطون، ينتمون إلى القبائل البربرية البدوية، فقد كانوا على بداوتهم وتقشفهم يتمتعون بكثير من الفضائل والخلال الحسنة، من الشجاعة والفروسة والورع، والتعلق بالجهاد في سبيل الله، وقد أتيح لهم بهذه الفضائل، أن يشيدوا دولة من أعظم الدول التي قامت في الغرب الإسلامي، وإن لم يتح لهم أن يشيدوا مدنية خاصة. أجل لقد فقد المرابطون بتعصبهم الجنسي، وتزمتهم الديني، حب الشعب الأندلسي، ولكنهم لم يحاولوا تغيير أساليبه في الحياة الخاصة، ولم يحاولوا وقف تيار الحركة الفكرية والأدبية، بل بالعكس حاولوا أن يوجهوها لمعاونتهم وخدمة قضيتهم، فكان معظم وزراء الدولة المرابطية وكتابها، منذ البداية، من أكابر كتاب الأندلس وأدبائها، وكان بلاط مراكش البربري، يصدر كتبه ومراسيمه لأهل الأندلس، مدبجة بأقلام أقطاب البلاغة في ذلك العصر، مثل أبى بكر بن القصيرة، وأبى القاسم بن الجد، وأبى محمد عبد المجيد بن عبدون، وأبى عبد الله بن أبى الخصال، وغيرهم.

وإذن فإنه يكون من التعسف المحض أن يقال إنه بقيام الحكم المرابطي بالأندلس " قد حلت البربرية مكان التمدن ".

ْويقول الأستاذ كوديرا معلقاً على ذلك: " إن ذلك لم يحدث بأي حال.

فإن حياة المسلمين الإسبان سارت كما كانت تسير حتى يومئذ. وإنه ليمكن أن نتحدى أي شخص يقوم بدراسة سير الشخصيات التي تضمها معاجم التراجم، وأن يجد فيها خلافاً في طريقة تكوين الأدباء، أو بعبارة أخرى، فإن رجال


(١) راجع أقوال دوزي السالفة الذكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>