وجوب تحري الدقة في شرحها، وتقييدها بالشهود والعدول، وإثبات أقوال المظلومين وحججهم، وأقوال الظالمين، أعني المدعين وحججهم، فهذا الاهتمام البالغ من أبي يعقوب، بالحرص على صون الدماء، والتنكيب عن إراقتها إلا بوجه الحق، ومنتهى الدقة والحذر، يحملنا على الاعتقاد بأن هذا الخليفة العالم، والفقيه البارع، قد تأثر أيما تأثر بما أبداه الموحدون منذ عهد المهدي، من خفة في سفك الدماء، ومن إسراف في إراقتها، وما اتسم به عهد أبيه الخليفة عبد المؤمن من سيطرة هذه الظاهرة الدموية المروعة، وأنه أراد برسالته أن يحمل زعماء الموحدين من أمراء وأشياخ وحكام، على التزام نوع من الحرص والاعتدال في إراقة الدماء، وفي تقرير أحكام الإعدام.
ولما وصلت رسالة الخليفة إلى أخيه السيد أبي سعيد بقرطبة، وجهت منها نسخ إلى سائر بلاد الأندلس التي تحت نظر الموحدين، وقرئت على الناس في الجوامع، وغادر السيد أبو سعيد قرطبة بعد ذلك بقليل، عائداً إلى حضرة مراكش نزولاً على رغبة الخليفة حسبما تقدم.
وفي أوائل سنة ٥٦٢ هـ (١١٦٦ م) عادت الفتنة إلى جبال غمارة بين قبائل صنهاجة، وعاد زعيمها سبع بن منعفاد إلى الخروج والعصيان، وبسط سلطانه على سائر المنطقة الممتدة من بلاد الريف على شاطىء البحر الأبيض المتوسط شمالا حتى سبتة، وأخذ يعيث فساداً في تلك المنطقة، ويقطع الطرق، ويعتدي على السكان الآمنين قتلا وسبياً ونهباً، ووصل عيثه وعدوانه غرباً حتى منطقة القصر الكبير. وكان قيام الثورة في تلك المنطقة الحساسة، التي هي شريان المواصلة بين المغرب والأندلس من أخطر الأمور، التي يجب حسمها بقوة وبسرعة. ومن ثم فقد سير الخليفة جيشاً موحدياً بقيادة أبي سعيد يخلف بن حسين إلى بلاد صنهاجة من جهة القلعة، وكان الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، قد تقدم في عسكره إلى ناحية أخرى من منطقة الثورة، فقاوم الثوار أشد مقاومة، وامتنع سبع بن منعفاد بقواته في جبل الكواكب، ولم تنل القوات الموحدية من الثوار مأرباً. وعندئذ رأى الخليفة أن يسير بنفسه إلى مقاتلة الثوار، فخرج في جيش كثيف، ومعه أخواه السيدان أبو حفص وأبو سعيد، وسار إلى جبال غمارة، ونازلت القوات الموحدية الزعيم الثائر في أعماق معاقله، وأحاطت به وبسائر صحبه من كل ناحية، وأمعنت فيهم قتلا وأسراً، ومزقوهم تمزيقاً، واحتلوا