أثر ذلك، معارك ومناوشات هلك فيها جماعة من أنصار الفريقين. وكان ابن همشك يسيطر على قطاع جيّان وبياسة وأبدة، نائباً عن صهره ابن مردنيش. فلما اضطرم العداء بينهما، أخذ ابن مردنيش يرهقه بغاراته، ويؤلب عليه قواده وجنوده، وابن همشك يقاوم ما استطاع.
على أن ابن هَمُشك لم يلبث أن جنح إلى قرار حاسم، فكتب إلى الشيخ أبي حفص بقرطبة رسالة يعلن فيها توبته واعتناقه لمذهب التوحيد، ويعرض تمكين الموحدين من بلاده، وهو ما يصفه ابن صاحب الصلاة " بتوحيد ابن همشك " وفي هذا التعبير ذاته ما يدلي بأن " التوحيد " لم يكن يقتصر على الناحية الدينية، ولكنه كان يعني بالأخص الخضوع السياسي لسلطان الدولة الموحدية. ثم شفع ابن همشك رسالته بالسفر إلى قرطبة، وذلك في رمضان سنة ٥٦٤ هـ (يونيه ١١٦٩ م)، فاستُقبل من واليها السيد أبي إسحق ومن الشيخ أبي حفص، وأكابر الموحدين بترحاب ومودة. وأعلن ابن همشك أنه " قد عاهد الله تعالى بالتزام الأمر العزيز المطاع، والدخول في حكم التوحيد ". ثم كتب إلى الخليفة أبي يعقوب يسجل توبته ودخوله في الطاعة، ويلتمس العفو، وحسن المثاب. فرد الخليفة بحسن القبول، وأمر بتقريبه، وإكرامه، واتصلت القواعد والأراضي التي كانت بيد ابن همشك بأراضي الموحدين في أواسط الأندلس. وكان انضمام ابن همشك إلى الموحدين على هذا النحو، ضربة أصابت ابن مردنيش في الصميم، إذ كان ابن همشك ساعده الأيمن، وكان أقدر قواده وأشدهم وطأة على أعدائه، ومن ثم فقد عول ابن مردنيش على الانتقام من صهره ونائبه السابق، ومعاقبته على خيانته، فدفع سائر قواته المجاورة لأراضيه إلى قتاله، وهاجمت هذه القوات جيان واستمرت في مقاتلة ابن همشك وإرهاقه مدى عام، وهو يستصرخ الموحدين لإنجاده. ولكن الموحدين لم يروا أن يتدخلوا في تلك المعركة، إذ كانت لديهم خطة أخرى لمقاتلة ابن مردنيش في عقر بلاده (١).
وفي أثناء ذلك ورد أمر الخليفة بتعيين الحافظ أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص عمر والياً لمدينة بطليوس مكان ابن تيمصلت. وكان أبو يحيى من أنجب الحفاظ وأوفرهم فروسة وعلماً. وكان عندئذ مع أبيه بقرطبة. فسار إلى بطليوس في جملة
(١) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة ١٢٦ أوب، والبيان المغرب القسم الثالث ص ٨٢.