للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إشبيلية، وحينما اجتاح نائبه ومعاونه ابن همشك وادي قرطبة، وهدد قرطبة ذاتها، واستولى على قرمونة، ثم هزم الموحدين في مرج الرّقاد واستولى على غرناطة. ولو لم تضع موقعة السبيكة حداً لتقدمه، لكان سلطان الموحدين في الأندلس عرضة للانهيار، ولكللت ثورة ابن مردنيش بالظفر التام. ولقد كان ابن مردنيش في الواقع يمثل بثورته ضد الموحدين، كل ما كانت تبطنه الأندلس القديمة من الآلام والآمال القومية، التي لبثت تجيش بها منذ استولى المرابطون على قواعدها، وفرضوا سيادتهم عليها. ولم تغير سيادة الموحدين بعد المرابطين لشبه الجزيرة الأندلسية شيئاً من هذا الاتجاه القومي، فقد كان الموحدون كالمرابطين بالنسبة للأندلس، أجانب، وكانوا مثلهم من القبائل البربرية، التي لم تستطع منذ مثولها القوي في شئون الأندلس منذ أيام الحاجب المنصور، أن تحرز من الأمة الأندلسية كثيراً من العطف والتقدير. ولم تكن فكرة الجهاد التي كان يحمل لواءها المرابطون ثم الموحدون، وما كانت الجيوش المرابطية، ثم الموحدية، تبذله في سبيل حماية الأندلس، ومحاربة إسبانيا النصرانية، لتقضي تمام القضاء على الفكرة القومية الأندلسية، وإن كانت تلطف من آن لآخر من جذوتها واضطرامها. على أن ابن مردنيش لم يكن بالرغم من حصافته وجرأته وشجاعته، هو الشخصية المثلى لحمل لواء القومية الأندلسية، فقد كانت ثورته على الموحدين، تفقد كثيراً من قيمها المعنوية، بما كان يجنح إليه من الإفراط في مصادقة النصارى، والاستعانة بهم في حروبه، وتمكينهم من قواعده، وتشبهه بهم في زيه، وفي حياته الخاصة والعامة. وإلى جانب ذلك كان ابن مردنيش يتسم بطائفة من الخلال الذميمة، فقد كان مسرفاً في الشراب، واتخاذ الجواري، حتى " كان يراقد منهم جملة تحت لحاف واحد "، منهمكاً في حب القيان والزمر والرقص (١)، ثم كان بعد ذلك طاغية ظلوماً، بالغ القسوة، مسرفاً في الانتقام، مستهتراً بالدماء، وكان عماله على شاكلته من الظلم والجور (٢).

وتضع الرواية الإسلامية ابن مردنيش في سلك ثوار الأندلس، وتنوه بذكائه وشجاعته، وقد وصفه بعضهم بأنه " كان بعيد الغور، قوي الساعد، أصيل الرأي، شديد العزم، بعيد العفو، مؤثراً الانتقام، مرهوب العقوبة ".


(١) ابن الخطيب في الإحاطة (المطبوع) ج ٢ ص ٨٦، وفي أعمال الأعلام ص ٢٦٠ و ٢٦١.
(٢) الإحاطة ج ٢ ص ٨٧ و ٨٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>