والبحر على القوات الموحدية، وغزوات ملك قشتالة لموسّطة الأندلس وتهديده لقرطبة وإشبيلية، وتوغل قواته جنوباً حتى غرناطة ومالقة ورندة، كل ذلك قد كشف عن ضعف الجبهة الدفاعية الموحدية بالأندلس، وعن قصور القوات الموحدية عن حماية الأندلس، وصد عدوان النصارى عنها.
ومن ثم فقد رأى الخليفة أنه لابد من تنظيم حركة جديدة للجهاد بالأندلس ليقودها بنفسه، وظهرت بوادر هذه النية منذ أوائل شهر جمادى الآخرة من سنة ٥٧٩ هـ، حينما أمر الخليفة بتمييز طوائف الموحدين والعرب والقبائل استعداداً للغزو، وبصنع عشرة مجانيق جربت بعد صنعها بالرمي أمامه، في منطقة البحيرة خارج مراكش، واستمر تمييز الجند طوال شهر جمادى الثانية (سبتمبر ١١٨٣ م).
وفي شهر شعبان أصدر الخليفة المراسيم بتولية أربعة من أبنائه قواعد الأندلس الأربعة الرئيسية، وهم السيد أبو إسحق لولاية إشبيلية كما كان، والسيد أبو زكريا يحيى لولاية قرطبة، وذلك تنفيذاً لرغبة القاضي أبي الوليد بن رشد، والسيد أبو زيد لولاية غرناطة، والسيد أبو عبد الله لولاية مرسية، وأمر بسفرهم إلى مقر أعمالهم، تمهيداً لحركة الغزو. وأصدر أمره في نفس الوقت بتولية أبي المكارم ابن الحسين المصري لقضاء إشبيلية، وأبي الوليد بن رشد لقضاء قرطبة، وأبي عبد الله بن الصقر لقضاء غرناطة، وتحرك الجميع للسفر إلى شبه الجزيرة في السابع والعشرين من شعبان.
وفي منتصف شهر رمضان، أجريت قسمة السلاح والعتاد، وخصص خباء لكل عشرة من الفرسان، ثم أخرجت البركة لسائر الجند من الفرسان والرجّالة.
وفي يوم السبت الخامس والعشرين من شوال (فبراير ١١٨٤ م) صدرت الأوامر بالحركة، وركب الخليفة كعادته بعد صلاة الصبح، وخرج من باب دُكّالة، وهو الذي يسلكه إلى الغزو بإفريقية. ويصف لنا صاحب البيان المغرب -والمرجح أنه ينقل عن ابن صاحب الصلاة (١) - موكب الخليفة ومراحل سيره، فيقول إنه سار يتقدمه العلم الأبيض مع الرجّالة، كالعادة، ومعه مصحف عثمان على جمل أبيض مرتفع، وقد وضع تابوته المرصع بنفيس الجواهر، وعليه قبة حمراء لصيانته، ويليه مصحف المهدي يحمله بغل، وقد سار بنو الخليفة مع
(١) يدفعنا إلى هذا الاستنتاج ما نلاحظه من مطابقة في السرد والوصف لأسلوب ابن صاحب الصلاة، وورود عبارات كثيرة مسجعة وغيرها مطابقة لما يستعمله ابن صاحب الصلاة في مواطن كثيرة.