هو الذي حمل الخليفة على اتخاذ قراره الفجائي، بالارتداد، خشية أن يعمل الليونيون على إعاقة عبوره النهر إلى الضفة اليسرى، ولاسيما بعد أن اقتنع بصعوبة الاستيلاء على شنترين.
بيد أنه إذا كان هذا التعليل يلقى شيئاً على بواعث قرار الارتداد، فإنا لا نستطيع أن نفهم سر ذلك الاضطراب المروع الذي اقترن بتنفيذه. ومن المحقق أن الخليفة ومعاونيه كانوا يقصدون أن يكون الارتداد وفق خطة منظمة، تقي الجيش المنسحب كل اضطراب وكل عثار. وهذا ما يؤكده لنا القاضي أبو الحجاج يوسف بن عمر في روايته حين يقول " إن ثقات الخليفة تطوفوا أول الليل على الرؤوس والجموع، وأوعزوا إليهم، ترتيب التحرك وكيفية القلوع، وأن يكون كل قبيل من جهتهم ثابتين مرصدين حتى ترحل الحمولة والأثقال، وتتخلص إلى السعة من المضايق والأوحال "(١). بيد أن الذي حدث هو العكس تماماً. وهو الفوضى المروعة، والاختلال المطبق. يقول أبو الحجاج يوسف، وهو شاهد العيان:" فاضطرب إقلاع الناس اضطراباً شنيعاً، وكثر الضجيج، واختلاط الأصوات، وتهولت المحلات، وأخذ العموم على شتى المسالك، فلا ترى سميعاً ولا مطيعاً ".
وكان أشنع ما في ذلك، هو ما حدث من غموض في فهم أوامر الخليفة، وتسرع في تنفيذها. ذلك أن كثيراً من الأشياخ ورؤساء القبائل فهموا أنه يجب الارتداد فوراً وفي جوف الليل، فهرعت طوائف غفيرة من الجند إلى الارتداد.
وعبور النهر، ووقع الارتداد في مناظر مروعة من الاختلال والضجيج والفوضى.
يقول الراوية شاهد العيان:" حضرت يوم هذا الإقلاع وليله، فما رأيته في تاريخ قبله، ولا يحصر واصف هوله "، وأقلع السيد أبو إسحاق ولد الخليفة نفسه في جنده عند الفجر قاصداً إشبيلية، واعتقد كثير أن الخليفة نفسه قد أقلع في السحر، واستمر عبور الجند على هذا النحو تباعاً، حتى عبر معظم الجيش، كل ذلك والخليفة غافل عما حدث. فلما أسفر الصبح، ظهرت الحقيقة المروعة، ولم يبق حول الخليفة الموحدي سوى الساقة، فعندئذ أمر الخليفة بضرب الطبول، فاجتمعت الفلول الباقية، وانحدر الخليفة صوب النهر، وبقى ابنه يعقوب المنصور مع بقية الساقة، في موضع المحلة مستعداً للقاء النصارى وردهم وحماية أبيه ومن معه.