وترقب أول فرصة للانسحاب. ومن الواضح أيضاً أن استئثار الخليفة بتوجيه حركات جيشه دون الاعتماد على رأي قواده، كان له أكبر الأثر فيما حدث من سوء فهم للأوامر الصادرة، بل ربما نستطيع أن نستشف من ذلك أثر الانشقاق وعصيان الأوامر الصادرة من الخليفة دون دراسة ودون تدبر، وقد كان منها الأمر بنقل مواقع الجيش الموحدي من شرقي وجنوب شنترين إلى الشمال والغرب، وهو أمر عارضه القواد الموحدون، لأنه يضع الجيش الموحدي في مواقع تعرضه لخطر التطويق، ثم أمر الانسحاب المفاجىء الذي استأثر الخليفة بإصداره، فكان نذيراً بكارثة الانسحاب المروع، وما اقترن به من شنيع الاضطراب والفوضى، وما انتهى الأمر إليه من فقد الاتصال بين الفرق المنسحبة، وبين حرس الخليفة وخاصته، وكانت النكبة المروعة، باقتحام محلة الخليفة وإصابته القاضية، أضف إلى ذلك كله ما كان يعانيه الجيش الموحدي من نقص في تمويناته، حتى اضطر حين الانسحاب أن يبحث عن أقواته بشن الغارات على الأراضي التي يخترقها خلال مسيره. وقد أثبت الخليفة أبو يعقوب وقواده بذلك كله، أنهم لم يتعلموا شيئاً من دروس حملة وبذة، ولم يحاولوا إصلاح جيوشهم، على ضوء ما تبين من وجوه النقص فيها، واستمر اعتمادهم في حشدها على التفوق العددي دون سواه.
- ٢ -
لما توفي الخليفة أبو يعقوب متأثراً بجراحه بعد عبوره نهر التاجُه بقليل، محمولا على محفته حسبما تقدم، كتمت وفاته، وحمل كالعادة مسجياً في محفته، حتى نزل الركب خلال الطريق إلى إشبيلية، بعد موضع يسميه صاحب البيان المغرب " بحصن طرش " وهنالك ضربت أخبية الخليفة كالعادة، وأحدق الفتيان والخدمة بالقبة الخليفية وفقاً للرسوم المعتادة، وكان السيد يعقوب أبو يوسف ولد الخليفة هو الذي يدخل على أبيه منذ إصابته، ويخرج من لدنه، ويتصرف في الأمور باسمه (١)، فلما نزل الركب بالموضع المذكور، وتكامل وصول الناس، بعث السيد أبو زيد ابن الخليفة إلى إخوته الأكابر الموجودين مع الجيش، وإلى أكابر الموحدين، وأطلعهم على وفاة الخليفة، وكشف لهم عن جثمانه وهو مسجى في فراشه، وطلب إليهم مبايعة الأمير يعقوب أبي يوسف، فاستجابوا إليه، وتمت البيعة في مساء نفس اليوم. وفي اليوم التالي استؤنف السير، وكل شىء على