حسبما فصلنا من قبل، خير البلاء في محاربة الموحدين، وانتصر عليهم مراراً ثم توفي قتيلاً في إحدى المعارك، وذلك في سنة ٥٣٩ هـ (١١٤٤ م) وترك ولدين، كان أحدهما على هذا الذي اعتنق الإسلام، وتحول إلى خدمة الموحدين.
واستقبل محمد بن غانية سفير الخليفة بترحاب ومودة، وأبدى استجابته إلى الدخول في طاعة الخليفة. وكان الخليفة أبو يعقوب عندئذ قد عبر البحر إلى الأندلس في جيوشه الجرارة، وذلك في صفر سنة ٥٨٠ هـ (أبريل سنة ١١٨٤ م)، قاصداً استئناف الجهاد ضد النصارى، فلم يكن أمام محمد سوى الخضوع وسيلة لاتقاء الغزو الموحدي. ولكن اخوة محمد، وهم علي ويحيى وطلحة وعبد الله وسير وتاشفين ومحمد المنصور وإبراهيم، لم يرقهم هذا الخضوع، فثاروا ضد محمد، وقبضوا عليه واعتقلوه، وقدموا أخاهم علياًّ لولاية الجزائر، ووضعوا في الوقت نفسه سفير الخليفة علياًّ الربرتير في شبه اعتقال، وحالوا بينه وبين مغادرة الجزيرة، واعتقلوا بحارة السفن الموحدية، ووضعوا بها بحارة من ميورقة، ولبثوا يطاولون الربرتير، حتى جاءت الأنباء بمصرع الخليفة أبي يعقوب عقب موقعة شنترين، وتفرق الجيوش الموحدية الغازية، فعندئذ أعلن على وإخوته جهاراً رفضهم للدعوة الموحدية والدخول فيها، وألقوا بعلي الربرتير إلى ظلام السجن (١).
ولم يكتف بنو غانية -على وإخوته- برفض طاعة الموحدين واعتقال سفيرهم، بل فكروا كذلك في انتهاز فرصة ما أصاب الموحدين من آثار هزيمة شنترين، وتفرق جيوشهم الغازية، وجنوح الخليفة الجديد أبي يوسف يعقوب إلى القيام بأعمال الإصلاح والإنشاء في ظل السكينة والعافية، لإنزال أول ضرباتهم بالموحدين، فاتجهوا بأبصارهم إلى إفريقية، إلى تلك المنطقة المضطربة، التي كانت دائماً مثار القلاقل والمتاعب للموحدين، والتي كانت طوائف العرب بها تجعل بتقلبها من فريق إلى فريق، ميزان القوي دائماً في تردد، وأزمعوا غزو مدينة بجاية أقرب ثغور هذه المنطقة إلى ميورقة.
ولم يكن تفكير بني غانية في غزو بجاية دون تمهيد سابق، فقد اتصل علي ابن غانية ببعض العناصر الناقمة على الموحدين في المدينة، من أولياء بني حماد
(١) البيان المغرب - القسم الثالث ص ١٤٦، وابن خلدون ج ٦ ص ١٩٠، وكذلك: Campaner y Fuertes: ibid , p. ١٤٦ - A. Bel: ibid ; p. ٢٩.