الفهرية، بل كانت آخر ثورة قام بقمعها عبد الرحمن، ولم يعش بعدها سوى عدة أشهر. وهكذا أنفق عبد الرحمن جميع حكمه - ثلاثة وثلاثين عاما - في كفاح مستمر. وكانت مهمة عظيمة دونها خطوب فادحة. أن يطمح فتى شريد، يعمل القتل الذريع في أسرته وعصبته، وحيد ليس له أنصار ولا صحب، إلى افتتاح قطر عظيم زاخر بالقادة والجند، وأن يخضع ذلك القطر في حروب لا يخمد أوارها، وسيول من الدماء لا تنقطع، وأن يقيم ملكاً على بركان يضطرم من الثورة والمؤامرة والخصومة: تلك هي قصة عبد الرحمن الأموي، وهي قصة عجيبة ليست من حوادث التاريخ العادية، ولايقدم إلينا التاريخ كثيرا من أمثالها. ولكن عبد الرحمن كان رجل الموقف، وكانت حوادث الجزيرة (إسبانيا) وظروفها، وتمزق شملها، وتطلعها إلى زعامة قوية توحد كلمتها وقواها، وتسير بها نحو السلام والأمن، تفسح مجال الطموح والعمل لذهن جرىء مغامر كذهن عبد الرحمن. وكان عبد الرحمن يجمع إلى فيض جرأته، كثيراً من الذكاء والدهاء والعزم، ولم يكن عليه أن يخاطر بأكثر من تلك الحياة التي كادت تزهق غير مرة، وكان يحملها في كفه أمام مطارديه خلال القفر الشاسع. ولكن الغنم كان عظيما: كان ملكا بأسره، وكان بعث أسرة هَوَت ومجد عريض دثر. وسنعرض في الفصل القادم طرفا من خلال تلك الشخصية الباهرة، التي تتبوأ مكانها بين أسطع شخصيات التاريخ الإسلامي.