للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي ذلك الحين فر أبو الأسود محمد بن يوسف الفهري من سجنه، ورفع لواء الثورة في طليطلة. وكان محمد سجيناً في قرطبة منذ مقتل أبيه، ثم فراره وأسره ثانية في حوادث طليطلة سنة ١٤٢ هـ كما قدمنا. وتظاهر محمد عندئذ بالعمى، وأتقن حيلته حتى جازت على جميع الموكلين بسجنه، وأشفق عبد الرحمن عليه فأبقاه ولم يقتله كأخيه، وأنفق محمد في أسره أعواماً طويلة حتى أهمل شأنه، ولم يعد يكترث أحد به، وعرف بالأعمى. ثم سنحت له فرصة الفرار على يد بعض مواليه المتصلين به، ففر من سجنه الواقع على النهر الكبير، وجاز النهر سباحة، ولحق بطليطلة سنة ١٦٨ هـ وأعلن الثورة. والتفت حوله جموع كبيرة من الفهرية والقيسية، ومن إليهم من عناصر الخروج والثورة، وسار في قواته صوب جيان، فخرج عبد الرحمن إلى قتاله، ووقعت بينهما معارك عديدة، كان النصر فيها لعبد الرحمن. ولكن أبا الأسود لبث حيناً محتفظاً بمراكزه وقواته. ثم نشبت بينهما على مقربة من قسطلونة في الوادي الأحمر، بمكان يعرف بمخاضة الفتح، معركة شديدة حاسمة، ولجأ عبد الرحمن إلى الخديعة، فاتفق مع بعض قادة أبي الأسود على التقاعد والغدر، فهزم أبو الأسود هزيمة شديدة، وقتل من جنده عدة آلاف، وغرق عدد كبير في النهر، وطارده عبد الرحمن حتى قلعة رباح، ومزق جيشه كل ممزق (ربيع الأول سنة ١٦٨هـ - ٧٨٤ م) (١). ولكن محمداً لم يخضع ولم يهن عزمه، فارتد إلى جهة الغرب ونزل بقورية، وعاد يحشد قواته لاستئناف القتال، وقوى أمره وبسط سلطانه على تلك الأنحاء، فسار عبد الرحمن لقتاله ثانية، وهاجم قورية ومزق شمل قواته (سنة ١٦٩ هـ - ٧٨٥ م)، ففر في نفر من صحبه إلى بعض قرى طليطلة، وهنالك توفي لأشهر قلائل (سنة ١٧٠ هـ). فقام مكانه أخوه أبو القاسم بن يوسف، واقترن بزوجته، وعاد ينظم الثورة في طليطلة. فسار عبد الرحمن لقتاله قبل أن يستفحل أمره، ولم ير أبو القاسم بدا من الخضوع والتماس الصلح والعفو، فأجابه الأمير إلى ملتمسه، وصحبه معه إلى قرطبة، ورد إليه بعض أموال أسرته (٢)، وطويت بذلك آخر مرحلة في ثورة


(١) يضع الرازي تاريخ هذه الموقعة في أول ربيع الأول سنة ١٦٨ (ابن الأبار في الحلة السيراء ص ٥٧) ويتبعه في ذلك ابن الأثير فيضع تاريخها سنة ١٦٨هـ. ولكن صاحب البيان المغرب يجعل تاريخها في سنة ١٦٩هـ (ج ٢ ص ٥٩).
(٢) ابن الأبار ص ٥٦ و٥٧؛ والبيان المغرب ج ٢ ص ٥٢ و٥٩ و٦٠، ويروي ابن الأثير أن عبد الرحمن لم يبق على أبي القاسم بل قتله (ج ٦ ص ٢٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>