للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وشعر الخليفة إبان مرضه بدقة الموقف، وأراد أن يحتاط لكل احتمال، فعقد البيعة لابنه أبي عبد الله محمد بولاية عهده، وكان سنه نحو عشر سنين (١)، وهو الذي تسمى بالناصر فيما بعد، وكتب بذلك إلى خاصة القرابة كالسيد أبي زيد والي إفريقية، وولده السيد أبي يحيى والي إشبيلية، فبادروا بالحضور إلى الحضرة، مطيعين مؤيدين لذلك العهد، وجاء وفد من شبه الجزيرة يحمل تأييد أهل الأندلس، وجاء معهم يوسف بن الفخار اليهودي رسول ملك قشتالة يسعى إلى توطيد الهدنة المعقودة. وكان الخليفة قد أبل عندئذ من مرضه، فتلقى تهنئة الوفود والأكابر بإبلاله، وأنشد الشعراء قصائدهم كالمعتاد (٢).

وقد انتهت إلينا صورة وثيقة البيعة الرسمية التي كتبها أهل قرطبة بمبايعة ولى العهد أبي عبد الله محمد الناصر، وهي مؤرخة في العشر الأوائل من ذي القعدة سنة ٥٨٨ هـ، وتبدأ بالتنويه بأهمية الاستخلاف في الولاية، وشرعيته، منذ عهد النبي، حينما استخلف أبا بكر في الصلاة، ثم تنوه بقيام المهدي، وإعلاء كلمة الدين بظهوره، وتقول لنا بعد ذلك في صدد البيعة ما يأتى:

" وبعد فهذا ما أجمع عليه الملأ بقرطبة وأعمالها حرسها الله، من الطلبة، والموحدين والعرب والأجناد والوجوه من الأشياخ والأعيان والقواد والخواص والعوام من الرعية، من حاضر منهم ومن باد، أجمعوا بتوفيق الله وعونه، وإحسانه العميم ومنه، على المبايعة للأمير الأجل الملك السعيد، السيد الأوحد ... المؤهل المؤثل، الحائز لشرف الانتساب .... فرع الشجرة المباركة الطيبة الانتماء التي أصلها في مقر الهدى ثابت، وفرعها في السماء ... أبو عبد الله محمد بن سيدنا الإمام المنصور، الناصر لدين الله تعالى الخليفة المرتضى أمير المؤمنين بن سيدنا أمير المؤمنين، بن سيدنا أمير المؤمنين أعلى الله أمرهم وأسماه ".

ثم يقول " فبايعوه بمقتضى أمره العلي، ونصه الواضح الجلي، بيعة مباركة سعيدة، استقبلوا بها آمالا فسيحة مديدة، وأعمالا من البر والتقوى جديدة. أسكبت عليهم شآبيب الرحمة والأمان، وأسحبت فواضل الإنعام والإحسان، وازدادت بهاء وجمالا معالم الإسلام والإيمان .. " وإن أهل قرطبة " بادروا إلى


(١) المعجب ص ١٧٥.
(٢) البيان المغرب القسم الثالث ص ١٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>