وعنى المنصور خلال إقامته عندئذ بإشبيلية بأمرين، الأول النظر في أحوال الأعمال والنفقات ومحاسبة بعض العمال والنظار، الذين لحقت بهم ريب التقصير والاختلاس، والثاني الاستعداد للغزوة القادمة بعد أن ينال الجند قسطهم من الراحة والاستجمام والضيافة والإحسان. وقد أمر المنصور فيما يتعلق بالأموال بمحاسبة أبي سليمان داود بن أبي داود، وندب لمحاسبته لجنة من الكتاب، فحققت في سائر أعماله وتصرفاته مدى ستة أشهر، ثم انتهت بإدانته وإثبات ما في ذمته من أموال، بلغت في الأعمال نحو مائة وخمسين ألف، فاستصفيت أمواله، ولكنه لم ينكب ولم يعاقب حتى عُفي عنه. وأمر الخليفة في نفس الوقت بمحاسبة أبي على عمر بن أيوب، على ما كان تحت يده من أموال النفقات، فتبين أن في ذمته قدراً كبيراً من المال، فطولب به، ولما عجز عن الوفاء، اعتقل مع أبي سليمان حتى عفى عنه أمير المؤمنين.
وفي هذا العام أيضاً قام الخليفة ببعض التعيينات الهامة، فقلد أبا زيد بن يوجان أشغال البرّين (المغرب والأندلس) من الأعمال العلية والشئون السلطانية والوزارة، وما يتعلق به من أشغال الموحدين وملازمة الخدمة، فأبدى في تأدية مهامه المختلفة كفاية ظاهرة، وقدم أبا القاسم بن نصير على الإشراف على عمل إشبيلية، وقدم الكاتب المؤرخ يوسف بن عمر، بعد أن ترك خدمة بني حفص ابن عبد المؤمن، على المستخلص بمنطقة الشَّرْف ومدينة لبلة.
وكان المنصور يعني في نفس الوقت بالاستعداد لاستئناف الغزو في أراضي قشتالة. فلما انتهى فصل الشتاء أمر بالحركة وتعبئة الحشود، فاجتمعت مختلف الطوائف والقبائل حتى ضاقت إشبيلية بجموعهم، فلما استكمل الحشد والاستعداد، خرج الخليفة في قواته من إشبيلية في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ٥٩٣ (١٤ أبريل سنة ١١٩٦) وسار ميمماً شطر قرطبة، وكانت سنة خصب ورخاء، فسارت الجموع طول الطريق في دعة وعيش طيب. ولما وصل المنصور إلى قرطبة، دخلها ونزل بها وقسم جيوشه لانتجاع الخصب ووفرة الأقوات، حتى تحل الفترة التي تكثر فيها المؤن والأقوات بأراضي قشتالة (١).