وتقول الرواية النصرانية إن الموحدين الذين كانوا يقاتلون معه، ضربوا الكنائس والأديار القشتالية بمنتهى القسوة، وقام الليونيون بانتساف وتخريب الضياع، ووصل ألفونسو التاسع في غزوته هذه حتى مدينة كريون. وفي نفس الوقت أغار سانشو ملك نافارا من جانبه على أراضي قشتالة المتاخمة له، واقتحم مدينة سُرية، وعاث في تلك المنطقة تخريباً ونهباً.
ولما انتهى المنصور من غزاته، وأثخن ما شاء في أراضي عدوه، وأبرزت ْحشوده أمام أعين النصارى كل مظاهر قوتها وروعتها، قرر العود بسرعة، قبل أن يختل نظام التموين في الجيش، فارتد بقواته نحو الجنوب، واقتحم الموحدون في طريقهم بعض حصون منطقة طليطلة الجنوبية، فاخترق أراضي قلعة رباح، ثم اتجه نحو جيان ثم إلى قرطبة، وسار من قرطبة إلى إستجة فقرمونة، ووصل إلى إشبيلية في أوائل رمضان (٥٩٢ هـ) بعد أن قضى في غزوته نحو ثلاثة أشهر (١).
وما نود أن نلاحظه هو أن هذه الغزوة الموحدية التي استطاع الموحدون أن يدفعوها إلى صميم أراضي قشتالة، وإلى تطويق العاصمة القشتالية ذاتها، أعني طليطلة، لم تسفر عن أية نتائج مستقرة، ولم يحز الموحدون خلالها أية أراضٍ أو مواقع ذات شأن. وإنه لمما يلفت النظر أن يكتفي الخليفة المنصور، وهو الذي حطم قوي قشتالة قبل ذلك بأقل من عام في موقعة الأرك بالعيث والتخريب، والسبي والنهب في أراضي العدو، دون أن يتحرى غاية عسكرية جليلة، في وقت كان فيه في أوج قوته وأهباته العسكرية، وفي وقت كان فيه عدوه الرئيسي ملك قشتالة في منتهى الضعف والاستسلام، حتى أنه لم يحرك ساكناً للقاء الغزاة في أية مرحلة من مراحل الغزو. وإنه يحق لنا أن نتساءل ألم يكن في وسع الخليفة الظافر، في مثل هذه الظروف المؤاتية، أن يركز جهوده على محاولة الاستيلاء على طليطلة حصن الإسلام القديم على نهر التاجُه، وفي اعتقادنا أنه لو فعل، لما كانت هنالك، ثمة عقبات خطيرة تحول دون بغيته، ولكن السياسة العسكرية الموحدية آثرت مع الأسف أن تقنع بالمظاهرات العسكرية الجوفاء، التي يستطيع العدو القديم الخالد دائماً أن يصبر عليها، وأن يهضمها بسرعة ليعود إلى عدوانه.
(١) فصلت لنا الرسالة الموحدية المؤرخة في التاسع من شهر رمضان سنة ٥٩٢ هـ، وهي الرسالة الخامسة والثلاثون من رسائل موحدية، مراحل هذه الغزوة بإسهاب يغلب عليه الزخرف الأدبي، وهي من إنشاء الكاتب أبي عبد الله بن عياش (ص ٢٢٨ - ٢٤١).