في خلال إقامة المنصور بقرطبة، في تلك الفترة من شهور سنة ٥٩٣ هـ، وقع حادث مؤسف ذو مغزى عميق، هو نكبة القاضي الفيلسوف أبي الوليد بن رشد. وقد سبق أن أشرنا إلى صلة ابن رشد بالبلاط الموحدي، وإلى ما كان يتمتع به من عطف الخليفة أبي يعقوب يوسف، ولاسيما عن طريق أستاذه العلامة الفيلسوف الطبيب أبي بكر بن طفيل، صديق هذا الخليفة وأستاذه الأثير لديه.
وكان ابن رشد في هذا الوقت يتولى قضاء إشبيلية، ويشغل في نفس الوقت منصب الطبيب الخاص للخليفة إلى جانب أستاذه ابن طفيل. ثم تقلب بعد ذلك في عدة من المناصب القضائية والإدارية العامة، أحياناً بقرطبة وأحياناً بإشبيلية، وكان يتنقل في معظم الأحيان مع بلاط الخليفة، سواء بالمغرب أو الأندلس. ولما توفي أستاذه ابن طفيل في سنة ٥٨١ هـ (١١٨٥ م) انفرد بمنصب الطبيب الخاص للخليفة، واستمر على حظوته ومكانته لدى الخليفة يعقوب المنصور، كما كان من قبل لدى والده الخليفة أبي يعقوب يوسف.
وكان ابن رشد خلال ذلك قد ذاعت شهرته الطبية والفلسفية ذيوعاً عظيماً، وكتب كثيراً من كتبه الفلسفية، ومعظمها في تلخيص كتب أرسطو وشروحها، وكتب كذلك كثيراً من الكتب الطبية، ومعظمها تلخيص وشروح لكتب جالينوس. ومنها " شرح لأرجوزة " الشيخ الرئيس ابن سيناء في الطب، وكتب كذلك كتابه " الكليات "، ليتناول فيه أبواب الطب الكلية أو الرئيسية، مقابل التفاصيل الجزئية التي تناولها أستاذه العلامة الطبيب أبو مروان عبد الملك بن زهر في كتابه " التيسير ". وهذا كله عدا ما كتبه في الأصول والفقه وعلم الكلام والحكمة والمنطق. وقد بلغت تصانيف ابن رشد في مختلف العلوم أكثر من سبعين كتاباً ورسالة اشتهرت كلها في المشرق والمغرب، وترجم الكثير منها فيما بعد إلى اللاتينية، ولاسيما شروحه لفلسفة أرسطو، وهي التي جعلت لابن رشد أعظم مكانة في ميدان التفكير الأوربي.
وكان الخليفة يعقوب المنصور، كأبيه عالماً متمكناً يجمع حوله صفوة العلماء والمفكرين، وكان يعشق الجدل والمناقشات الفلسفية ويعقد مجالس خاصة يستمع فيها إلى آراء ابن رشد وشروحه، ولاسيما في علاقة الفلسفة بالدين، وهو