الموضوع الذي كتب فيه ابن رشد فيما بعد رسالة " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ". وكان الفيلسوف يقضي معظم أوقاته عندئذ في البلاط الموحدي، حيثما كان الخليفة، وكان المنصور يعظم الفيلسوف ويقدره، إلى حد أنه كان يجلس إلى جانبه مباشرة، ويتعدى بموضعه مواضع أشياخ الموحدين الأكابر.
ومن الغريب أن يقال لنا إن ابن رشد، بالرغم مما كان يحيط بمقامه العلمي من ضروب التوقير والتكريم، لم يكن يتمتع بالمظهر اللائق بمكانته من حيث الملبس والتجمل. وقد وصفه لنا القاضي أبو مروان الباجي في قوله " كان القاضي أبو الوليد ابن رشد حسن الرأي ذكياً، رث البزة، قوي النفس ".
وقد شاء القدر أن يُنكب الفيلسوف، في تلك الفترة التي نزل فيها المنصور بقرطبة. وكان ابن رشد قد عاد إلى الأندلس في ركاب الخليفة، ونزل بدار أسرته في قرطبة. وكانت أسباب هذه النكبة في الواقع تتجمع منذ بعيد. وكانت قد نشأت من قديم بين الفيلسوف وبين أهل قرطبة وحشة. " أحدثتها أسباب الحسد ".
وكان الحفاظ والطلبة والفقهاء الموحدون فضلا عن ذلك، ينقمون على ابن رشد آراءه ودراساته الجدلية والفلسفية، وينقمون بالأخص منزلته لدى الخليفة. ونحن نعرف ما كان يتمتع به أولئك الحفاظ والطلبة لدى الخليفة الموحدي من عظيم النفوذ، ولاسيما وقد كانوا نصحاءه ومستشاريه الروحيين. وكان كثير من هؤلاء وكثير من غيرهم من خصوم الفيلسوف، يبثون حول آرائه ونظرياته دعاية مسمومة، ويرمونه بالمروق والخروج على أحكام الشريعة، " وإيثاره فيها لحكم الطبيعة ". وكانت الفلسفة ودراساتها بالرغم مما كان يتسم به البلاط الموحدي، منذ عهد الخليفة عبد المؤمن، من رعاية العلم والعلماء، من الموضوعات المريبة المكروهة. وهكذا كان خصوم ابن رشد يجدون في صميم دراساته وكتاباته، مواد اتهامهم. وأكثر من ذلك أنهم كانوا يدسون عليه ألفاظاً وعبارات محرجة. ومن ذلك وصفه في أحد شروحه " الزهرة " بأنها " أحد الآلهة " وقد جمع أولئك الخصوم مقالات وأوراق كثيرة منسوبة إلى الفيلسوف، وحملوها إلى مراكش في أوائل سنة ٥٩١ هـ (١١٩٤ م)، وحاولوا أن يرفعوها إلى الخليفة. ولكن المنصور كان يشغل عندئذ بالأهبة للعبور إلى الأندلس. ومن ثم فقد فشل الساعون في مسعاهم، واضطروا للعودة خائبين.
ويقول لنا ابن عبد الملك في " الذيل والتكملة " وهو فيما يرجح ينقل عن