للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابن صاحب الصلاة: " فلما كان التلوم من المنصور بمدينة قرطبة، وامتد بها أمد الإقامة، وانبسط الناس من مجالس المذاكرة، تجددت للطالبين آمالهم، وقوى تألبهم، واسترسالهم، فأدلوا بتلك الألقيات، وأوضحوا ما احتجنوه من شنيع الهفوات الماحية لأبي الوليد كثيراً من الحسنات، فقرئت بالمجالس، وتؤولت أغراضها، ومعانيها وقواعدها ومبانيها، فخرجت بما دلت عليه أسوأ مخرج، وربما ذيلها مكر الطالبين، فلم يمكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام. ثم آثر الخليفة فضيلة الإبقاء، وأغمد السيف بالتماس جميل الجزاء، وأمر طلبة مجلسه، وفقهاء دولته، بالحضور بجامع المسلمين، وتعريف الملأ بأنه مرق من الدين، وأنه استحق لعنة الضالين " (١).

ولم يكن الاتهام بالمروق مقصوراً على الفيلسوف، ولكنه شمل عدة من زملائه وتلاميذه ممن يشتغلون " بالحكمة وعلوم الأوائل ". وكان من هؤلاء أبو جعفر الذهبي، والفقيه أبو عبد الله محمد بن ابراهيم المهري المشهور بالأصولي، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس الحافظ الشاعر. وأحضر ابن رشد، والفقيه أبو عبد الله المهري وحدهما إلى جامع قرطبة، وتوارى الباقون. وتولى توجيه الاتهام إلى الفيلسوف وزميله، القاضي أبو عبد الله بن مروان، والخطيب أبو علي بن الحجاج. ولم يقل لنا صاحب " التكملة "، ماذا كان موقف ابن رشد، ولكن المرجح أنه قام بالرد على أسانيد متهميه.

وعلى أي حال فقد انتهى الأمر بإدانة الفيلسوف، وقضى الخليفة المنصور بمعاقبته بالنفي من قرطبة، واعتقاله ببلدة " أليسّانة " أو" اللسّانة "، الواقعة في جنوبها على مقربة من نهر شَنيل. وكانت هذه البلدة منذ عصور منزل اليهود في هذه المنطقة من الأندلس. وكانت بالأخص مدينة غنية زاهرة أيام دولة بني باديس أصحاب غرناطة (٢). وقيل في اختيارها لاعتقال الفيلسوف " إنه يُنسب في بني إسرائيل، ولأنه لا يعرف له نسب في قبائل الأندلس ". وكان من الواضح أن الخليفة قد راعى في الاقتصار على عقوبة الفيلسوف بالنفي، سنه


(١) التكملة لابن عبد الملك المراكشي المجلد الخامس من مخطوط المتحف البريطاني. ونقله إلينا صاحب البيان المغرب مع الاختصار ص ٢٠٢.
(٢) وهي بالإسبانية Lucena. راجع الإدريسي، وصف المغرب والأندلس (طبعة دوزي) ص ٢٠٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>