للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان بين الأخوين موجدة وجفاء. ومنها أنه أي ابن رشد، كان يجري في أحاديثه مع الخليفة على مخاطبته دائماً بقوله " تسمع يا أخي " وكان المنصور يُسرّ له هذه الجرأة في مخاطبته. ومنها أخيراً، وهو ما يدخل في باب العيب في ذات الخليفة، أن ابن رشد قال في شرحه لكتاب الحيوان لأرسطاطاليس ما يأتي: ورأيت الزرافة عند ملك البربر مشيراً إلى المنصور، وقد وجد ذلك مكتوباً بخطه (١). فهذه الأسباب كلها قد اجتمعت لتهيىء لخصوم الفيلسوف ومتهميه فرصة النيل منه، وإقناع الخليفة بصحة ما نسب إليه من تهم المروق والإلحاد.

ولبث ابن رشد في معتقله في " أليسّانة " زهاء ثلاثة أعوام. ثم إن جماعة من أكابر أهل إشبيلية، خاطبوا المنصور في شأن الفيلسوف وزملائه، وتشفعوا لديه في سبيل إقالتهم والعفو عنهم، ونفوا بالأخص عن الفيلسوف تهمة المروق والزيغ، وشهدوا بحسن إيمانه وسلامة عقيدته. ونفى ابن رشد عن نفسه من جهة أخرى، تهمة العيب في حق المنصور، بوصفه ملك البربر " وقال إن صحة الوصف هي ملك " البرين " وإن ما وقع هو تحريف من الناسخ، فاستجاب المنصور إلى شفاعتهم، وعفا عن ابن رشد وزملائه، وذلك في سنة ٥٩٤ هـ.

وهكذا استرد الفيلسوف حظوته ومكانته في البلاط الموحدي، وعاد إلى مراكش ليلتحق ببلاط الخليفة. بيد أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، وتوفي في التاسع من شهر صفر سنة ٥٩٥ هـ (١٠ ديسمبر سنة ١١٩٨ م)، وهو في الخامسة والسبعين من عمره. ودفن ابن رشد أولا في مقبرة " باب تاغزوت " خارج مراكش، ثم حمل منها بعد أشهر قلائل إلى قرطبة مسقط رأسه، وموئل أسرته، ودفن في روضة آبائه بمقبرة ابن عباس (٢).

تلك هي أدوار المأساة المشجية التي اقترنت بحياة فيلسوف من أعظم أقطاب التفكير الإسلامي والتفكير العالمي. ولقد تكررت هذه المأساة، التي اتخذت صورة الاضطهاد الفكري، غير مرة في ظل المرابطين ثم الموحدين، وكانت مطاردة ابن رشد ومحاكمته، بلا ريب وصمة في عهد خليفة عظيم عالم كالخليفة


(١) المعجب للمراكشي ص ١٧٤ و ١٧٥.
(٢) راجع في نكبة ابن رشد " الذيل والتكملة " لعبد الملك المراكشي (المخطوط المشار إليه)، والتكملة لابن الأبار في ترجمته (القاهرة) رقم ١٤٩٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>