للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

" فلما وصل أمير المؤمنين، وهزم الله أذفونش الطاغية، أمر رضي الله عنه في مدة إقامته بإشبيلية بعمل التفافيح الغريبة الصنعة العظيمة الرفعة، الكبيرة الجرم، المذهبة الرسم، الرفيعة الاسم والجسم، فرفعت في منازلها بمحضره، وحضر المهندسون في إعلايها على رأيه، وبلوغ وطره، مركبة في عمود عظيم من الحديد مرسى أصله في بنيان أعلى الصومعة أعلاها، زنة العمود ماية وأربعون ربعاً من الحديد، موثقاً هناك في تلاحك البنيان، بارز طرفه الحامل لهذه الأشكال المسماة بالتفافيح إلى الهواء، يكابد من زعازع الرياح، وصدمات الأمطار، ما يطول التعجب من مقاومته وثباته. وكان عدد الذهب الذي طليت به هذه التفافيح الثلاثة الكبار والرابعة الصغرى، سبعة آلاف مثقال كباراً يعقوبية، عملها الصياغ بين يدي أمير المؤمنين وحضوره. ولما كملت سترت بالأغشية من

شقاق الكتان ليلا ينالها الدنس من الأيدي والغبار، وحملت على العجل مجرورة

حتى إلى الصومعة، بالتكبير عليها والتهليل، حتى وصلت ورفعت بالمسدسة حتى إلى أعلى الصومعة المذكورة، ووضعت في العمود، وحصلت فيه، وحصلت بمحضر أمير المؤمنين أبي يوسف المنصور رضي الله عنه، وبمحضر ابنه وولي عهده أبي عبد الله السعيد الناصر لدين الله، وجميع بنيه وأشياخ الموحدين والقاضي وطلبة الحضر، وأهل الوجاهة من الناس، وذلك في يوم الأربعاء عقب ربيع الآخر بموافقة التاسع عشر من شهر مارس العجمي عام أربعة وتسعين وخمس ماية، ثم كشف عن أغشيتها فكادت تغشى الأبصار من تألقها بالذهب الخالص الإبريز وشعاع رونقها " (١).

ويضيف صاحب روض القرطاس إلى ما تقدم، أن الذي قام بالإشراف على صنع هذه التفافيح الذهبية، ورفعها إلى أعلى المنار، هو المعلم أبو الليث الصقلي، وأن هذه التفافيح قومت يومئذ بمائة ألف دينار من الذهب (٢).

ونقول نحن، إن هذه الصومعة أو المنارة العظيمة التي أمر بإنشائها الخليفة أبو يعقوب يوسف لجامع إشبيلية الأعظم، وأتمها ولده يعقوب المنصور، وزودها بتفافيحها الذهبية الرائعة، ما زالت تقوم حتى يومنا، وإن كانت قد فقدت تفافيحها الذهبية منذ بعيد، وحولت طبقتها العليا إلى برج للأجراس لكنيسة إشبيلية


(١) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة (المخطوط السابق ذكره لوحه ١٧١، أوب).
(٢) روض القرطاس ص ١٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>