للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مسموع، ولهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم، وهم التجار فيها، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للعباسى. ولهم بها قاض، يرتفعون إليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون للصلاة فيه. وأما المساجد فكثيرة لا تحصى، وأكثرها محاضر لمعلمى القرآن، وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين، تحت ذمة الكفار، ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم، ولا في أبنائهم، تلافاهم الله بصنع جميل " (١).

وهذه العبارة الأخيرة من أقوال ابن جبير، تلخص لنا حقيقة أحوال المسلمين في صقلية في أواخو القرن السادس الهجرى (الثاني عشر الميلادى). ذلك أنه بالرغم من تلك الامتيازات الشكلية في السكنى والتجارة ومزاولة الشعائر، فإنه لم يكن ثمة شك في أن الأقلية المسلمة كانت تعيش داخل الجزيرة ذليلة مضطهدة. وهذا ما يفصله لنا ابن جبير بعد ذلك، إذ يقول إنه خلال إقامته ببلدة إطرابنش، " تعرف ما يؤلم تعرفه من سوء حال أهل هذه الجزيرة مع عباد الصليب بها، وما هم عليه من الذل والمسكنة، والمقام تحت عهد الذمة، وغلظة الملك، إلى طوارىء دواعى الفتنة في الدين ". ثم يقول لنا، إنه التقى في هذه البلدة بزعيم مسلمي صقلية، وهو القاسم بن حمود المعروف بابن الحجر وهو من ورثة أهل السيادة، وكان من خيرة مسلمي الجزيرة كرماً ومآثر، وكان قد اتهم بمخاطبة الموحدين، واضطهد من أجل ذلك، وغرم أموالا طائلة. ويزيد ابن جبير على ذلك، أنه وقف من هذا الزعيم، على بواطن أحوال مسلمي الجزيرة مع أعدائهم " مما يبكى العيون دماً، ويذيب القلوب ألماً " (٢).

ويحدثنا ابن جبير عن الملك وليم (غليام)، فيقول إنه عجيب في حسن السيرة، واستعمال المسلمين، وإنه كثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله، وله جملة من العبيد المسلمين وعليهم قائد منهم. ثم يصف لنا فخامة قصوره، وتناهيه في الترف ورفاهة العيش، وشغفه باتخاذ الفتيان والجوارى، وأنه يقرأ العربية ويكتبها، وأهل عمالته في ملكه منهم مسلمون. ولما توفي الملك وليم الثاني في سنة ١١٨٩ م، وخلفه في حكم صقلية الإمبراطور فردريك الثاني، أول حكامها من آل هوهنشتاوفن، عاد فانتزع من المسلمين


(١) رحلة ابن جبير (القاهرة ١٩٥٥) ص ٣١٤ و ٣٢٣.
(٢) رحلة ابن جبير ص ٣٣٢ و ٣٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>