ويبدو من تتبع تاريخ صقلية، في تلك الفترة أن الأقلية الإسلامية التي كانت بالجزيرة حتى هذا العهد، كانت تعانى من الضغط والاضطهاد. وكان المسلمون مذ سقطت الجزيرة في أيدي الأمراء النورمان في سنة ٤٧٩ هـ (١٠٨٦ م)، يتمتعون بطائفة من الحقوق والامتيازات، ومنها السكنى في بعض الأحياء، والأراضي، في مسينى، وبلرم، وترابانى، وجرجنت، ومازرة، وغيرها من المدن، ومزاولة شعائرهم الدينية في مساجدهم القليلة الباقية، ومزاولة مهنهم وأعمالهم السلمية. واستمر الأمر على ذلك نحو قرن، في ظل عدة متعاقبة من الأمراء النورمان ذوى التسامح المستنير، وفي مقدمتهم ولد فاتح الجزيرة، الدوق روجر (رجّار) الثاني، وهو الذي أسبغ رعايته على الشريف الإدريسي، وعهد إليه بوضع موسوعته الجغرافية الشهيرة " نزهة المشتاق ". فلما توفي في سنة ١١٥٤ م، خلفه ولده وليم الأول (غليام)، فولده وليم الثاني. وفي عهد هذا الملك، اشتدت وطأة الحكم على المسلمين وأراد أن ينزع منهم بعض الأراضي التي يحتلونها ليعطيها لبعض الأديرة المجاورة، فقام المسلمون ببعض ثورات محلية، واستولوا على بعض الحصون النصرانية، والظاهر أن الملك وليم، عدل بعد ذلك عن سياسة الضغط والقمع التي حاول أن يتخذها إزاء المسلمين، وعاد الصفاء يخيم على علائق المسلمين والنصارى.
وقد أورد لنا الرحالة الأندلسي ابن جبير وصفاً دقيقاً لأحوال مسلمى صقلية في عهد الملك وليم (ويسميه غليام) مما وقف عليه حين زيارته للجزيرة في شهر رمضان سنة ٥٨٠ هـ (يناير سنة ١١٨٥ م)، وقد زار منها عدة مدن مثل مسينه، وبلارمه (بلرم)، واطرابنش، واجتمع فيها بالمسلمين، ووقف على أحوالهم. وهو يقول بصفة عامة، إن المسلمين يعيشون مع النصارى على أملاكهم وضياعهم، وأن النصارى قد أحسنوا السيرة في استقبالهم واصطناعهم، وضربوا عليهم إتاوة يؤدونها في فصلين من العام، وحالوا بينهم وبين سعة في الأرض كانوا يجدونها، ثم يقول لنا، إنه لم يكن في مسينه إلا نفر يسير من المسلمين من ذوى المهن. وأما بلرم، وهي عاصمة الجزيرة، ففيها كثير من المسلمين وفيها سكنى الحضريين منهم، ولهم فيها المساجد، والأسواق المختصة بهم في الأرباض كثير، وسائر المسلمين بضياعها وجميع قراها، وسائر مدنها كسرقوسة وغيرها. وللمسلمين في بلرم " رسم باق من الإيمان يعمرون به أكثر مساجدهم، ويقيمون الصلاة بآذان