وقد صدر مثل هذا الكتاب بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والحث على اتباع أحكام الشريعة، ونبذ البدع، عن معظم الخلفاء الموحدين، حسبما أشرنا إليه في مواضعه.
هذا وبينما المأمون مشغول على هذا النحو، بإصلاحاته المذهبية والدينية، إذ وقع انفصام جديد في الخلافة الموحدية، وظهر مدَّع جديد للخلافة، هو السيد أبو موسى بن يعقوب المنصور أخو المأمون. وذلك أن المأمون كان قد ولى أخاه السيد أبا موسى حكم ثغر سبتة، ففي سنة ٦٢٩ هـ، دعا السيد أبو موسى لنفسه بالخلافة، وتسمى بالمؤيد بالله، وفي نفس الوقت كانت قبائل فازاز ومكلاته، قد جاهرت بالعصيان، وعاثت في منطقة مكناسة، وحاصرت مكناسة ذاتها، فحشد المأمون قواته، وخرج من مراكش يريد تأديب القبائل الثائرة أولا، ثم يسير إلى سبتة ثانيا، وكان عندئذ قد اطمأن إلى عجز ابن أخيه يحيى المعتصم عن القيام بأية محاولة جديدة، بعد أن تركه الموحدون، وعادوا إلى جبالهم، وسار هو في صحبه القليل إلى منطقة درعة وسجلماسة.
ولما أشرف المأمون بقواته الكثيفة على مكناسة، بادرت القبائل الثائرة بالتفرق والفرار، وعندئذ استمر في سيره إلى سبتة، فلما وصل إليها ضرب حولها الحصار من البر، ولكن المدينة المحصورة لم تشعر بشىء من الضيق، إذ كانت حرة مفتوحة من جهة البحر، فلم تنقطع عنها الموارد. وفضلا عن ذلك فإن السيد أبا موسى، بعث إلى ابن هود صاحب الأندلس يستنصر به، فأمده ابن هود ببعض سفنه. ومن ثم فقد لبث المأمون على حصارها ثلاثة أشهر، وهو يضربها بالمجانيق كل يوم، دون أن يلحقها شىء من الضيق أو تقع ثلمة في أسوارها، أو يهدم شىء من دورها، وربما كان في عزم المأمون أن يتابع هذا الحصار الفاشل حيناً آخر، لولا أن بلغه عندئذ خبر رُوع له، وأرغمه في الحال على رفع الحصار، هو وقوع مراكش في يد يحيى المعتصم.
وما كاد المأمون يبتعد عن سبتة حتى عبر أخوه، السيد أبو موسى إلى الأندلس. وكان ابن هود قد بلغ عندئذ ذروة سلطانه، وبايعت له معظم قواعد الأندلس، فبايعه، ونزل له عن سبتة، فعوضه عنها بولاية ألمرية. وبعث ابن هود إلى سبتة بحليفه، وقائده السابق الغشتى والياً لها، فلبث بها بضعة أشهر إلى أن أخرجه أهلها وخلعوا طاعة ابن هود، وبايعوا أبا العباس أحمد بن محمد