لقد كان انتثار الخلافة الموحدية، على هذا النحو، وقيام الخليفة العادل بالأندلس، خروجاً على الخليفة أبي محمد عبد الواحد، ثم قيام أبي العلى المأمون بالأندلس أيضاً، خروجاً على أخيه العادل، أعمق وقع وأبعد صدى في الأندلس. ولم يقتصر الأمر في ذلك، على تصدع أركان الحكم الموحدي، وما حدث من ثورة أبي محمد عبد الله البيّاسى، وما ترتب عليها من الآثار المؤلمة، بل كان أن اهتزت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها لهذه الأحداث الخطيرة، ونهضت من من سباتها الطويل، الذي فرضه عليها الحكم الموحدي، زهاء ثمانين عاما، وأخذت تضطرم بسلسلة جديدة من الفورات القومية، على غرار ما حدث في أواخر العهد المرابطي. بيد أن هذه الفورات كانت مع الأسف، حركات متناثرة، متنافسة، متخاصمة، تفرق بينها الأطماع الخاصة، وإن كانت تجمع بينها رابطة الغرض المشترك، وهو تحرير الأندلس من نير الموحدين، وحمايتها من عدوان النصارى.
قامت هذه الحركات التحريرية في شرقي الجزيرة وفي وسطها، في وقت واحد، وكانت بالرغم من طابعها الشخصى، وهو ما يتفق مع روح العصر، حركات قومية أندلسية محضة، وكان قيامها في غمار المحن التي نزلت بالأندلس من جراء تخاذل السادة والحكام الموحدين، عن تأدية واجبهم الأول في شبه الجزيرة، وهو الدفاع عن الأندلس وحمايتها من عدوان النصارى، وتحول نشاطهم إلى معارك داخلية شخصية، بل وإلى مصانعة وتسليم للنصارى. ولم تكن حال الموحدين، وتضعضع قواهم، وانهيار مواردهم بالمغرب، خافية على الأمة الأندلسية، وعلى زعمائها الذين نهضوا في تلك الآونة العصيبة، يحاولون إنقاذ الموقف، بكل ما يمكن أن تسمح به الظروف والأحوال.
وكان أول من ظهر من أولئك الزعماء الأندلسيين، زعيم من بيت عريق في الزعامة والرياسة، هو محمد بن يوسف بن هود الجذامى، وهو سليل بني هود ملوك سرقسطة أيام الطوائف. وكان آخر من أتينا على ذكرهم من زعماء هذا البيت، هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن يوسف بن هود، وهو الملقب بسيف الدولة وبالمستنصر بالله، وأحياناً بالمستعين، وقد تتبعنا أخباره فيما تقدم، مذ غادر قلعة روطة آخر مستقر لبني هود، بعد سقوط سرقسطة في أيدي الأرجونيين في سنة ٥١٢ هـ (١١١٨ م) وانضوى تحت لواء ملك قشتالة