سعيد بن حكم الأموى، وهو من أهل طبيرة من غربي الأندلس، كان رجلا طموحاً وتجول في شبابه في أنحاء الأندلس وإفريقية، ثم دخل منرقة في سنة ٦٢٤ هـ، واشتغل بها مشرفاً على شئون الجباية والأجناد، ثم ظفر برياستها لما اضطربت الأحوال، وتقلص سلطان الموحدين، فوليها من قبل أبي يحيى، وضبط شئونها بهمة وبراعة وذلك منذ سنة ٦٣١ هـ، وكان عالماً محدثاً، ونحوياً أديبا يجيد النثر وينظم الشعر مع مشاركة طيبة في علم الطب، يجتذب إليه العلماء من كل صوب، ويفتدى منهم من يقع في أسر العدو، وكان ورعاً حريصاً على تنفيذ أحكام الشريعة، وكان يلقب بالرئيس، فصلحت أحوال الجزيرة في عهده، وعمها الرخاء والأمن. ولما استولى الملك خايمى على جزيرة ميورقة، رأى أبو عثمان أن يبادر بالتفاهم مع النصارى، فاعترف بطاعة الملك خايمى، على أن يؤدي له جزية سنوية، وأن يسلم إليه حصن تيوداديلا وذلك على أن لا يدخل الجزيرة أحد من النصارى. وهكذا ترك أبو عثمان وشأنه، فلبث على رياسته للجزيرة زهاء نصف قرن آخر، وضبط شئونها بحزم، وسار في الناس أعدل سيرة، واستقام أمر الجزيرة على يديه، وهابه جيرانه من النصارى، وكان يقصده الناس والعلماء والطلاب من سائر أنحاء الأندلس والمغرب، ويتردد عليه التجار، فيشمل الجميع ببره، ورفقه وأنسه. وكان شغوفاً بجمع الكتب، حتى اجتمع له منها ما لا نظير له كثرة وجودة وندرة، ومن شعره قوله في الحض على الجود:
لا تمنع المعروف يوما معرضا ومعرضا ... كلاهما من حقه فيه له أن يعرضا
هذا تنزه فاستحق على نزاهته الرضا ... والآخر استحيا من التصريح فيه فعرضا
وتوفي سعيد بن حكم في رمضان سنة ٦٨٠ هـ (١٢٨١ م)، فخلفه في حكم الجزيرة ولده أبو عمر حكم بن سعيد، وكان مثل أبيه أديباً وعالما، ولكن أمد حكمه لم يطل، لأن النصارى رأوا أخيراً أن ينتزعوا منورقة من أيدي المسلمين، فقام الأرجونيين بافتتاحها في سنة ٦٨٦ هـ (١٢٨٧ م) وأجلى عنها المسلمون، وانتهى بذلك أمر الإسلام بالجزائر الشرقية، وغادر أبو عمر الجزيرة ومعه أهله ورفات أبيه، وسار أولا إلى سبتة، ثم قصد إلى تونس، فغرق في البحر هو وآله (١).
(١) ابن الأبار في الحلة السيراء ص ٢٥٥، والروض المعطار ص ١٨٥، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص ٢٧٥ - ٢٧٧. وقد أورد ابن عبد الملك في الذيل والتكملة ترجمة ضافية لسعيد بن حكم (مخطوط الإسكوريال ١٦٨٢ الغزيرى لوحة ٩ أ - ١٠ ب).