ثلاثمائة وثمانون، هذا عدا الأحبار والأشراف، وجعلت هذه الأملاك وراثية بالنسبة لأعقابهم، وسموا بفرسان الفتح، وترك لهم حراسة المدينة والدفاع عنها. وأقبل النصارى من كل فج على سكنى بلنسية وتعميرها. ومع ذلك فقد بقيت بها جماعة كبيرة من أهلها المسلمين، تدجّنوا واستسلموا لمصيرهم الجديد. وهكذا سقطت بلنسية في أيدي النصارى، بعد أن حكمها المسلمون، منذ الفتح خمسة قرون وربع قرن، سطعت خلالها في شرقي الأندلس، وتزعمت قواعده، ولعبت أعظم دور في أحداثه ومصايره، ولبثت فترات طويلة، مثوى الثورة الوطنية الأندلسية، وكانت أعظم مركز للعلوم والآداب في شرقي شبه الجزيرة. وكانت بلنسية منذ بعيد هدفاً لأطماع النصارى، القشتاليين منهم والقطلان، وكانت مسرحاً لمغامرات السيد الكنبيطور (السيد الكمبيادور)، وقد استولى عليها بالفعل في جمادى الأولى سنة ٤٨٧ هـ (يونيه ١٠٩٤ م) ولبثت تحت نير النصارى زهاء ثمانية أعوام، حتى استردها المرابطون في شعبان سنة ٤٩٥ هـ (مايو ١١٠٢ م)، وذلك حسبما فصلناه في كتابنا " دول الطوائف ".
على أن بلنسية وأحوازها، استمرت بعد سقوطها في أيدي النصارى، مدى عصور، مثوى لجماعات كبيرة من المدجّنين المسلمين، ثم بعد ذلك من العرب المتنصرين (الموريسكيين) وقد لعب هؤلاء في تاريخها السياسي والاجتماعى منذ القرن الرابع عشر حتى أواخر القرن السادس عشر، أدواراً ذات شأن. وهو ما فصلناه في كتابنا " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين ".
- ٣ -
وقد أذكت محنة بلنسية وسقوطها في أيدي النصارى، فجيعة الشعر والنثر بالأندلس، على نحو ما فعلت محنة طليطلة، وسقوطها، وصدرت في رثائها طائفة كبيرة من القصائد والرسائل المبكية. ويرجع ذلك بالأخص إلى وجود عدد من أكابر الكتاب والشعراء المعاصرين، الذين شهدوا المحنة من أبناء بلنسية ذاتها، أو شرقي الأندلس، وفي مقدمتهم أبو عبد الله بن الأبار، وأبو المطرف بن عميرة المخزومي، وأبو عبد الله بن الجنان، وهم جميعاً من كتاب أمير بلنسية، أبي جميل زيان. وإذا كنا لا نعنى هنا إلا بتسطير الأحداث والمحن، فإنه يسوغ لنا مع ذلك أن نقف مدى لحظة، لنستعرض خلالها، بعض نماذج من النثر والنظم، في رثاء بلنسية من كلام أبنائها