ولا مراء في أن ما صدر عن ابن الأبار في ذلك وهو من أعظم أبناء بلنسية، وقد قضى فيها معظم شبابه وكهولته، وشهد أدوار المحنة من بدايتها إلى نهايتها، سواء من النثر أو النظم، إنما هو غرة هذه المراثى، وأبلغها استثارة للأسى، وقد أوردنا فيما تقدم شطراً من قصيدته الرائعة:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا
ورأينا كيف يصور فيها محنة الأندلس العامة أروع تصوير وأبلغه. ولما سقطت بلنسية، بعد ذلك، صدرت عنه رسائل وقصائد أخرى، في رثاء بلنسية وبقية قواعد الأندلس الذاهبة، وبكاء أمجادها ومحاسنها، فمن ذلك قوله من رسالة إلى صديقه أبي المطرِّف ابن عميرة:
" وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لبد، أسلمها الإسلام، وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أنسرها الطائرة، وطلعت أنحسها الغائرة، فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكن السكن.
كزعزع الريح صك الدوح عاصفها ... فلم يدع من جَنًى فيها ولا غصن
واها وواها بموت الصبر بينهما ... موت المحامد بين البخل والجُبُن
أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد وُرْقها وأغانيها، أين حلى رصافتها وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها، أين أفياؤها تندى غضارة، وركاؤها تبدو من خضارة. أين جداولها الطفاحة وخمائلها، أين جناتها النفاحة وشمائلها، شد ما عطل من قلائد أزهارها نحرُها، وخلعت شعشعانية ضحاها بحيرتها وبحرها، فأية حيلة لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان، وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان. ثم لم يلبث داء عقرها، أن دب إلى جزيرة شُقرها، فأمرَّ عذبها النمير، وذوى غصنها النضير، وخرست حمائم أدواحها، وركدت نواسم أرواحها، ومع ذلك اقتحمت دانية، فنزحت قطوفها وهي دانية، ويالشاطبة وبطحائها، من حيف الأيام وأنحائها، ولهفاه ثم لهفاه على تُدمير وتلاعها، وجيّان وقلاعها، وقرطبة ونواديها، وحمص وودايها، كلها رُعى كَلأُها، ودهى بالتفريق والتمزيق ملأها، غض الحصار أكثرها، وطمس الكفر عينها وأثرها .. وما لأندلس أصيبت بأشرافها، ونقصت من أطرافها، قوض عن صوامعها الأذان، صُمَّت بالنواقيس فيها الآذان، أجنت ما لم تجن الأصقاع، أعَقّت