الحق فحاق بها الإيقاع، كلا بل دانت للسُّنة، وكانت من البدع في أحصن جُنّة، فليت شعرى بم استوثق تمحيصها، ولم تعلّق بعموم البلوى تخصيصها، اللهم غُفْراً، طالما ضر ضجر، ومن الأنباء ما فيه مزدجر، جرى بما لم تقدّره المقدور، فما عسى أن ينفث به المصدور، وربنا الحكيم العليم، فحسبنا التفويض له والتسليم " (١) ولأبى المطرِّف بن عميره، وهو أيضاً من أبناء بلنسية، ومن أبلغ كتابها، رسائل عديدة في رثاء المدينة العظيمة، فمن ذلك رسالة خاطب بها زميله وصديقه ابن الأبار جوابا عن رسالته المتقدمة يقول فيها:
" طارحني حديث مورد جف، وقطين خفَّ، فيا لله لأتراب درجوا، وأصحاب عن الأوطان خرجوا، قصت الأجنحة وقيل: طيروا، وإنما هو القتل والأسر أو تسيروا، فتفرقوا أيدي سبا، وانتشروا ملىء الوهاد والربا، ففي كل جانب عويل وزفرة، وبكل صدر غليل وحسرة، ولكل عين عبرة لا ترقأ من أجلها عَبرة، داء خامر بلادنا حين أتاها، ومازال بها حتى سجى على موتاها، وشجا ليومها الأطول كهلها وفتاها، وأنذر بها في القوم بحران أنيجة، يوم أثاروا أسْدها المهيجه، فكانت تلك الحطمة طل الشؤبوب، وباكورة البلاء المصبوب .. وبعد ذلك أخذ من الأم بالمخنق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق. وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان، فبرح الخفاء، وقيل على آثار من ذهب العفاء، وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاه، وأودت الخفة والحصافة، وذهب الجسر والرُّصافة، ومزقت الحلة والسهلة، وأوحشت الجرف والرملة، ونزلت بالجارة وقعة الحرة، وحصلت الكنيسة من جآذرها وظباها على طول الحسرة، فأين تلك الخمائل ونضرتها، والجداول وخضرتها، والأندية وأرجها، والأودية ومنعرجها، والنواسم وهبوب مبتلها، والأصائل وشحوب معتلها، دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها ترددها وحيرتها، ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها، حتى أحاطت بجزيرة شقرها، فآها لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كَلْمه، وبالجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها، وروضة أجاد أبو اسحق نعتها،، إنما كانت داره التي فيها دب، وعلى
(١) واضح من هذه الرسالة أنها أنشئت بعد سقوط قواعد الشرق، وبعد سقوط إشبيلية في سنة ٦٤٦ هـ أعني بعد سقوط بلنسية بنحو عشرة أعوام