منذ الفتح تفيض بعوامل الهياج والثورة، وكان بين أهلها كثرة من المولدين أو النصارى الذين دخلوا في الإسلام، والمستعربين أو النصارى المعاهدين. وقد سبق أن عنينا بالتعريف بهذين العنصرين، اللذين اضلعا بأدوار خطيرة في تاريخ اسبانيا المسلمة، وأوضحنا أن العرب والبربر، وهما العنصران اللذان تعاونا في فتح اسبانيا، لم يكونا أغلبية بين الشعب الأندلسي الذي تكون بعد الفتح بمضي الزمن، وكان العرب بالأخص أقلية في معظم المدن الكبيرة، لكن هذه الأقلية العربية كانت تستأثر بالحكم، وخصوصاً في الأقاليم الوسطى والجنوبية القريبة من قرطبة مركز الإمارة والسيادة. وكان البربر من جانبهم أغلبية في بعض المناطق الغربية والشمالية، وكانوا حيثما غلبت كثرتهم وسلطتهم، يتحدون في معظم الأحيان مع المولدين، وأحياناً مع النصارى المعاهدين أنفسهم، على مناوأة حكومة قرطبة.
أما "المولدون" فكان معظمهم حسبما أسلفنا من الإسبان والقوط الذين اعتنقوا الإسلام منذ الفتح تباعاً، واندمجوا في المجتمع الإسلامي، وقد كانوا كثرة في بعض المدن القوطية العريقة مثل طليطلة وبعض مدن الثغر الأعلى، وقد برزت منهم بعض الأسر القوية ذات السلطان والبأس، مثل بني قسىّ زعماء الثغر الأعلى وبنو حفصون زعماء ريُّه، ويصفهم المستشرق سيمونيت بأنهم كانوا بعد اندماجهم في المجتمع الإسلامي أشد تعصباً ضد النصارى من المسلمين الخلص أنفسهم (١).
وأما النصارى المعاهدون أو المستعربون كما يسمون بالإسبانية Mozarabes، فهم حسبما أشرنا من قبل النصارى الإسبان الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم، وبقوا في المدن الأندلسية المفتوحة تحت الحكم الإسلامي. وبالرغم مما كانت تسبغه الحكومة الإسلامية عليهم من أسباب الرعاية، وما كان لهم في كثير من الأحيان من الحظوة والتمتع بثقة الأمراء، وتولي كثير من الوظائف الهامة، فقد كانوا على العموم عنصراً قليل الولاء للحكومة الإسلامية، وكانوا في المدن البعيدة في كثير من الأحيان، يحالفون الثوار من المسلمين والبربر والمولدين، ويمالئونهم، ويعملون على عقد الصلات بينهم وبين الملوك النصارى، سعياً إلى مناوأة حكومة قرطبة وخلق الصعاب في وجهها. وسنرى أى دور خطير يلعبه أولئك النصارى المعاهدون في قرطبة في عهد عبد الرحمن بن الحكم، لإثارة الفتن والاضطراب في المملكة الإسلامية.