للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تنبيك أني لم أكن في قراعهم ... بوان وقد ما كنت بالسيف قارعا

وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم ... فوافوا منايا قدرت ومصارعا

فهذي بلادي إننى قد تركتها ... مهاداً ولم أترك عليها منازعا

وإني إذ أجادر أجراعاً عن الردى ... فما كنت ذا جيد عن الموت جارعا

خرج الحكم ظافراً من تلك الثورة الشعبية بعد أن سحقها سحقاً. ومع ذلك فقد لبث أهل قرطبة على تحديهم له، ولبثوا يتغامزون عليه، ويقدحون في سيرته. وقد وصف لنا كاتب قريب من العصر، موقف أهل قرطبة بعد الواقعة من الحكم في قوله: " فأكثروا الخوض، وأطالوا الهمهمة، وفزع رؤوسهم الى السمر في مساجدهم بالليل، مستخفين من السلطان، مدبرين عليه، وقد كان خائفاً من ثورتهم، متهمماً لدخلتهم، حذراً منهم، مستعداً لهم، مرتقباً لوثبتهم، مرتبطاً الخيل على باب قصره، نوباً بين غلمانه ... ". ثم إنه استكثر من العبيد والسلاح، وعززهم بالأحرار، يرابطون دائماً حول القصر، واستشعر الناس من ذلك الهيبة والخوف، وركنوا إلى السكينة، وفرض الحكم العشور على جميع الناس بقرطبة وبالكور، فزاد في نفورهم منه، وبغضهم له (١).

وأثارت حوادث الربض، واستكانة الشعب، من جهة أخرى، قريض الشعراء الأحرار، من خصوم الحكم، والناقمين على عسفه وطغيانه، وصدرت في ذلك قصائد كثيرة تنعي مسلك أهل قرطبة واستكانتهم، ومن ذلك قول الشاعر غريب بن عبد الله من قصيدة طويلة:

يا أهل قرطبة الذين تواكلوا ... جد الدفاع من التواكل أفضل

جد الدفاع لو انكم دافعتم ... يوم الهياج لكم أعز وأجمل

إن التواكل وهنة ومذلة ... والجد فيه الصنع والمتمهل

صرتم أحاديث العباد وكنتم ... عوناً لهم في كل هم ينزل

أمسى عبيدكم الذين ملكتم ... ملكوا عليكم والأمور تحول

ومرض الحكم بعد ذلك واستطالت به العلة، فاستناب عنه في أواخر عهده عبد الرحمن أكبر أولاده لتدبير الأمور (٢)، واختاره لولاية عهده، وأخذ له البيعة


(١) مخطوط ابن حيان المشار إليه ص ١٠٥ و١١٠.
(٢) ابن الأبار في الحلة السيراء ص ٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>