للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهرع معظم السكان المسلمين إلى تلك القواعد الإسلامية الباقية، إستبقاء لحرياتهم ودينهم وكرامتهم، حتى لم يبق من تلك القواعد الشهيرة سوى غرناطة وأعمالها، تؤلف مملكة إسلامية صغيرة، ولكن أبية ساطعة، استطاعت عبقرية بناتها النصريين، أن تسير بها خلال العاصفة أكثر من مائتى عام.

والحقيقة أن مصير الأندلس، كان يهتز في يد القدر، مذ فشلت ريح دول الطوائف، وغلب عليها الخلاف والتفرق، وانحدرت إلى معترك الحرب الأهلية، تفسح لعدوها الخطر مجال التفوق عليها، والضرب والتفريق بينها. وقد استطاع بعض ذوى النظر الثاقب من رجالات الأندلس، حتى في ذلك العصر، الذي كان الإسلام يسيطر فيه على معظم أنحاء شبه الجزيرة الإسبانية، أن يستشفوا ما وراء هذا التفرق من الخطر الداهم. فنرى ابن حيان مؤرخ الأندلس في القرن الخامس الهجري، يقول لنا بعد أن يصف حوادث سقوط بربشتر، من أعمال الثغر الأعلى (أراجون)، في يد النصارى (النورمان) في سنة ٤٥٦ هـ (١٠٦٣ م) وما اقترن بسقوطها من القتل والسبى وشنيع الاعتداء: "وقد استوفينا في شرح هذه الفادحة مصائب جليلة، مؤذنة بوشك القلعة، طالما حذر أسلافنا لحاقها، مما احتملوه عمن قبلهم من آثاره. ولاشك عند أولى الألباب، أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع، وقد أخذنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادى عليه، على شفا -جرف يؤدى إلى الهلكة لا محالة، إذ قدر الله زماننا هذا بالإضافة إلى ما عهدنا في القرن الذي سلخه من آخر أمد الجماعة، على إدراك ما لحق الذي قبله، فمثل دهرنا هذا -لا قدس- بهيم الشبه، ما أن يباهى بعرجه، فضلا عن نزوح خيره، قد غربل ضمائرهم، فاحتوى عليهم الجهل، فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء، ولا على معالى الغى بأقوياء. نشأ من الناس هامل يعللون أنفسهم بالباطل، من أول الدلائل على فرط جهلهم، اغترارهم بزمانهم، وبعادهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغرهم، حتى أطل عدوهم الساعى لإطفاء نورهم، يتبجح عراص دورهم، ويستقرى بسائط بقاعهم، يقطع كل يوم طرفا، ويبيد أمة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكراهم، لهاة عن بثهم " (١)، ولم يكن هذا التنديد من


(١) نقلنا هذه الفقرة من تعليقات ابن حيان على نكبة بربشتر، عن الذخيرة لابن بسام، القسم الثالث المخطوط المحفوظ بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (لوحات ٣٤ - ٣٦). ونقل المقري بعض هذه التعليقات في نفح الطيب (مصر) ج ٢ ص ٥٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>