جانب المؤرخ الأندلسى الكبير، بتواكل أهل الأندلس، وتخاذلهم عن نصرة دينهم وإخوانهم، إلا معبراً عن حقيقة راسخة مؤلمة، ظهرت بأروع مظاهرها، في عصر الطوائف. بل لقد لاح مدى لحظة، حينما سقطت طليطلة أول قاعدة إسلامية كبيرة، في يد اسبانيا النصرانية في سنة ٤٧٨ هـ (١٠٨٥ م)، أن الأندلس أضحت على وشك الفناء، وأن دول الطوائف المنهوكة الممزقة، سوف تسقط تباعاً في يد عدوها القوى، وأن دولة الإسلام في اسبانيا سوف تطوى وتختتم حياتها المجيدة في شبه الجزيرة. وقد ساد الفزع والتوجس يومئذ جنبات الأندلس كلها، حتى قال شاعرهم حينما سقطت طليطلة:
يا أهل أندلس شدوا رحالكم ... فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط
من جاور الشر لا يأمن بوائقه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط
ولكن الدرس كان عميق الأثر، فجنح زعماء الطوائف إلى الرشاد، وجمعت المحنة منهم الكلمة، وارتدوا إلى ما وراء البحر، يلتمسون الغوث إلى "المرابطين" إخوانهم في الدين. وكان المرابطون يومئذ في عنفوان دولتهم، وأميرهم يوسف ابن تاشفين يبسط سلطانه القوى على أمم المغرب، من المحيط غرباً حتى تونس شرقاً. فاستجاب المرابطون إلى صريخ الطوائف، وعبروا البحر إلى الأندلس في قوات ضخمة، والتقت الجيوش الإسلامية المتحدة بقيادة يوسف بن تاشفين، بالجيوش النصرانية المتحدة بقيادة ألفونسو السادس زعيم اسبانيا النصرانية، في سهول الزلاّقة في رجب سنة ٤٧٩ هـ (أكتوبر سنة ١٠٨٦ م) فأحرز المسلمون نصراً عظيماً حاسماً. وكانت موقعة الزلاّقة من أيام الأندلس المشهورة، وانتعشت دول الطوائف، وقويت نفوس الأمة الأندلسية، وبدأت الأندلس حياة جديدة. ولكن سرعان ما انقلب المرابطون على إخوانهم وحلفائهم، واجتذبتهم نعماء الأندلس وثرواتها، فحطموا دول الطوائف، وبسطوا حكمهم على الأندلس زهاء نصف قرن. ولما سقطت دولتهم في المغرب، وقامت على أنقاضها دولة الموحدين، جاشت مختلف القواعد الأندلسية بالثورة على المرابطين، وعبر الموحدون البحر إلى اسبانيا، واستولوا تباعا على القواعد الأندلسية الكبرى وبسطوا على الأندلس حكمهم زهاء قرن آخر. وفي ظل الموحدين أحرزت الجيوش الإسلامية كما أحرزت في الزلاّقة أيام المرابطين، نصرها الحاسم ضد اسبانيا